السبت، 11 أغسطس 2012

الاتجاه البنيوى فى النقد الأدبى.


بقلم د/ابراهيم حجاج مدرس بقسم الدراسات المسرحية كلية الآداب جامعة الاسكندرية.
قد رفض الكثيرون من النقاد، ورجال الأدب، قوانين التشابه السطحى الساذجة التى تحكم العلاقة بين العمل الأدبى والمجتمع بشكل يجعل من الأدب مرآة عاكسة لأوضاع المجتمع وقضاياه، دون الأخذ فى الاعتبار بنية هذا العمل التكوينية، وقيمه الجمالية، ومن هنا ظهرت على الساحة الأدبية اتجاهات جديدة تنادى بأهمية التحليل الداخلى للعمل الأدبى والإعلاء من قيمة الشكل على حساب المضمون، وأهم هذه الاتجاهات الاتجاه البنيوى. 

إن "كلمة بنية" فى لغتنا العربية، ترتد إلى الفعل الثلاثى (بنى، يبنى، بناء) . وقد يتبادر إلى الذهن أن كلمة "البنية" التى اشتق منها لفظ "البنيوية"، كلمة عادية مألوفة لنا تقترب فى فهمنا من معنى "الشكل"، أو "الصورة"، ولكن الكلمة قد تعنى أيضا الكيفية التى شيد على أساسها هذا البناء أو ذاك، وبالتالى يمكننا أن نتحدث عن "بنية المجتمع" أو "بينة الشخصية" أو "بنية اللغة"....إلخ، وهذا ما أكده العالم اللغوى "أندريه مارتينيه" Andre Martinet، فى تصوره للبنية،، ذلك التصور الذى يمكن أن يفيدنا فى تحديد البنية الأدبية وإبراز طابعها، فيقول "إذا كانت المعاجم خاصة "أوكسفورد" تنص على أن البنية هى كيفية بناء تركيب أو جهاز أو أية مجموعة فإن هذا لا يشير إلى عملية البناء نفسها، ولا إلى المواد التى تتكون منها ولكنه يتعلق بكيفية تجميع وتركيب وتآلف هذه المواد لتكوين الشئ وخلقه لأغراض ووظائف معينة وبذلك يثير مصطلح "البنية"، انطباعًا مرتبطًا بالتصميم الداخلى للأعمال الأدبية، بما يشمله من عناصر رئيسية، متضمنة الكثير من الرموز والدلالات، بحيث يتبع كل عنصر عنصرًا آخر، ويتطرق "ليفى شتراوس"- أحد رواد البنيوية الأثنروبولوجية – للعلاقة بين هذه العناصر الداخلية فى تعريفه لمفهوم البنية على أنها "نسق يتألف من عناصر من شأن أى تحول للواحد منها أن يحدث تحولاً فى باقى العناصر الأخرى"وهو المفهوم نفسه الذى جاء فى تعريف "صلاح فضل"، حيث عرف البنية على أنها "مجموعة متشابكة من العلاقات، وأن هذه العلاقات تتوقف فيها الأجزاء أو العناصر على بعضها البعض من ناحية، وعلى علاقتها بالكل من ناحية أخرى".
ولابد أن نميز بين البنية من ناحية والأسلوب من ناحية أخرى، فالبنية تتصل بتركيب النص، بينما يمس الأسلوب النسيج اللغوى المكتوب به فحسب، "ففى القصة مثلا سنرى أن البنية ترتبط بمستويات الحكاية المختلفة، ووظائف الزمن والشخصيات، وهيكل الأحداث، أما الأسلوب فيقتصر على تحليل الخلايا اللغوية التى تشف عن هذه المستويات، ومن هنا فإن المترجم قد يبتعد عن أسلوب النص الأصلى، لكنه لا يمكن أن يبتعد عن بنيته، ما دام لا يتخلى عن مهمته الأولى كمترجم".
وقد ظهرت البنيوية أو (البنائية كما يسميها بعض المفكرين)، كنظرية ومنهج فى الفكر الفرنسى المعاصر، وتعتبر أحد الاتجاهات الفكرية الأساسية التى سيطرت على ذلك الفكر لفترة من الزمن.
وهناك مدارس أدبية أسهمت إلى درجة كبيرة فى تشكيل الفكر البنيوى من أهمها مدرسة الشكليين الروس التى تبلورت فى روسيا فى عشرينيات القرن العشرين، وقد انطلق رواد هذه المدرسة من أمثال جاكبسون Jackobson (1896-1982)، وباختين Bakhtin (1895-1975) فى تحليلهم للعمل الأدبى من الداخل بالتركيز على اللغة بوصفها الوسيط بين الكاتب والمتلقى، ولكنهم لم يركزوا على اللغة العادية التى نستخدمها فى حياتنا اليومية، بل لغة الأدب التى تجعلنا نصف هذا العمل بكونه عملاً أدبيًا ودعوا إلى الابتكار والابتداع وتكسير القوالب اللفظية التقليدية التى أصبحت من كثرة ترديدها باردة لا طعم لها، واحتفلوا بالبراعة الصياغية ونزع الألفة من اللغة، ويقول "جاكبسون" فى هذا الصدد "أن موضوع الأدب ليس الأدب إنما أدبيته" أى تلك العناصر التى تجعل من عمل ما عملاً أدبياً، وبذلك كانت الشكلية مدخلا للبنائية، حيث اعتبرت أن المادة هى مشكلة الأدب، وأكدت على حق الشكل فى أن يحظى بأكبر قدر من العناية تفوق العناية بالمضمون؛ حيث إن الاتجاه البنيوى هو الآخر اتجاه نظرى يقف موقف المعارضة من الاتجاه الماركسى فى اعتقاده بأن الأدب يعطى معلومات عن المجتمع، ويركز بدلاً من ذلك على السمات الداخلية للأدب، بغض النظر عن مضمونه الإجتماعى والثقافى، ويهتم فى المقام الأول بالتحليل الداخلى للنصوص الأدبية والعلاقة بينها، وهو ما تؤكده "أمل حركة" بقولها "إن البينوية تمارس نقدًا من النوع "الكامن"، وترفض أن تنظر خارج النص أو مجموعة النصوص التى نتناولها للبحث. إنها نظرية تقوم على منهج يعامل النص معاملة خاصة، فقيمة شخصية من شخصيات مسرحية ما - على سبيل المثال – تتحدد لا بمقارنتها بما يقع خارج المسرحية، وإنما بشبكة العلاقات القائمة داخل المسرحية ذاتها، وبالشخصيات الأخرى التى تضمها."
"والعلاقة بين الشكلية والبنائية ليست حاسمة، وإن كانت واضحة، فالأولى ترسى أسس الاختلاف بين الشكل والمضمون، والثانية تحاول دمج الشكل فى المضمون، والدال بالمدلول، حيث تكمن الإشكالية الرئيسية للبنيوية فى انحيازها للدال (النص الأدبى) على حساب المدلول (المعنى)، فالدال هو ما نستطيع الثقة به لأنه مادى أما المدلول فيبقى مسألة فيها نظر، لأن الدال الواحد لابد أن ينتج مدلولات مختلفة لشخصين مختلفين بحسب اختلاف التجارب الفردية، فصار النص واحدًا والقراءات متعددة، "حيث يهدف التحليل البنائى إلى تعدد معانى الآثار الأدبية، التى تعتبر فى جوهرها رمزية، لا بمعنى أنها تعتمد على الصورة أو الخيال أو الإشارة، وإنما لقابليتها لتعدد المعنى".
وينبغى أن نميز فى هذا الصدد بين مصطلحين مهمين هما المعنى والتأويل، فمعنى أى عنصر فى العمل الأدبى يتحدد بإمكانية دخوله فى علاقة متبادلة مع عناصر أخرى فى العمل نفسه ومع الكل بصفة عامة، وعلى هذا فإن معنى أية صورة يتمثل فى تعارضها مع صورة أخرى، أو فى كونها أشد كثافة منها بقليل أو بكثير، ومعنى قطعة ما من الحوار الداخلى أو مناجاة النفس هو تحديد خصائص الشخصية التى صدر عنها، وهذا على عكس ما يحدث فى التأويل؛ إذ أن تأويل عنصر ما من العمل الأدبى يتوقف على شخصية الناقد، وعلى عصره وموقفه الأيديولوجى، ومن هنا يتضح الفرق الحاسم بين المعنى والتأويل، فالمعنى هو مناط البنية الأدبية ينتزع من داخلها، أما التأويل فينص على أندماج الناقد فى العمل الأدبى وتمثله حتى يتحول إلى مبدعه الثانى، وهو ما يرفضه الاتجاه البنيوى.
إن إلغاء الشخصية عنصر مهم فى البنيوية بما فى ذلك شخصية المؤلف أو الناقد (المتلقى)، فكلاهما عاملان خارجيان عن الأثر الأدبى لا يخدم موضوع الأدب ولا يمت له بأية صلة ومن هنا قدم "رولان بارت"R.Barthes (1915 -1980) أحد رواد البنيوية نظريته التى أصبحت شعارًا وثيق الارتباط بالبنيوية والتى "تنادى بموت المؤلف، أو ضرورة ذلك، حتى يتولد المعنى بعيدًا عن أية مؤثرات خارجية تحيط بالأديب ويتأثر بها إنتاجه الإبداعى.
إذن فمهمة الناقد البنيوى ليست اختبار مدى مصداقية الكاتب بالنسبة للعلاقة بالمجتمع، كما كان النقد الماركسى السابق يحصرها فى هذا النطاق، "إنما أصبحت مهمته أن يختبر لغة الكتابة الأدبية، يرى مدى تماسكها، وتنظيمها المنطقى، والرمزى، ومدى قوتها أو ضعفها، بغض النظر عن الحقيقة التى تزعم أنها تعكسها وتعرضها فى كتاباتها.
فالنص المسرحى (مثلا) فى عرف النقد البنيوى لا يتكون من فصول مرتبة من الفصل الأول إلى الثانى ....إلخ، لأن هذه هى أجزاء الجسم الخارجى، لكنه يتكون من أبنية، وأن هذه الأبنية تتمثل فى بنية الشخصيات، بنية الزمان الذى تدور فيه الأحداث، بنية الخطاب المسرحى (الحوار- السرد)، وغيرها من العناصر الداخلة، ويظل هدف البنيوية هو دراسة هذه الأبنية وعلاقتها ببعضها البعض، وكيفية تولدها، وكيفية أدائها لوظائفها الجمالية.
ونخلص مما سبق إلى أن البنيوية منهج ينظر إلى الأعمال الأدبية باعتبارها نظمًا رمزية دلالية تقوم فى الدرجة الأولى على مجموعة من العلاقات المتبادلة بين البنى الجزئية، "وترى أن قيمة العمل الأدبى تتمثل فى النص ذاته وما ينبثق عنه من جماليات لغوية ومستوى أدبى رفيع، وليس فى علاقته بغيره من المستويات الخارجية سواء كانت نفسية، أو اجتماعية أو تاريخية أو غير ذلك من المستويات". ويرى الباحث أن قصور دور الفن على إبراز النواحى الجمالية الداخلية يقلل من فرص خلوده، إذ أن الجمال ليس مطلق فكما يتغير مقياس الحياة بتغيير ظروفها يختلف الإحساس بالجمال من عصر إلى عصر وكذلك من طبقة إلى طبقة، ويتفق مع "جلبرت ميرى" Gilbert Murray فى قوله بأن إبداع أى عمل فنى لابد وأن يقوم على قصد المنفعة والاستخدام، فليس ثمة صورة ترسم لأناس عمى، ولا يبنى قارب فى غير وجود ماء".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق