الأحد، 26 أغسطس 2012

القضية الفلسطينية فى المسرح المصرى بين الرمز والمباشرة.


د/ابراهيم حجاج - مدرس بقسم المسرح كلية الآداب - جامعة الاسكندرية.
تناول المسرح المصرى قضية الصراع العربى الإسرائيلى، وقدمها فى أشكال ورؤى مختلفة، ليعبر عن تلك الصراعات التى يخوضها الفلسطينيون فى مواجهة السلطات الاستعمارية الإسرائيلية، فقدم الكاتب "على أحمد باكثير"(*) مسرحية شايلوك الجديد" "ليعالج فيها طرفا مما دار فى فلسطين العربية منذ عام 1935 إلى وقت كتابة المسرحية عام 1945، حيث كانت أحداث هذه الفترة هى قمة ما وصل إليه الصدام بين العرب والفلسطينيين من جهة والصهاينة المغتصبين من جهة أخرى، والتى انتهت باغتصاب فلسطين من يد العرب فى عام 1948 (بعد كتابة المسرحية بثلاث سنوات) وهو ما يتنبأ به الكاتب صراحة فى المسرحية." وقد رأى "باكثير" اليهودى فى صورة "شايلوك" كما رسمه "شكسبير" فى مسرحية "تاجر البندقية"، متآمرًا ، مستغلا، يتاجر بالأعراض والربا، ويحاول مع زبانيته اقتطاع (رطل من اللحم) من جسم الأمة العربية.
كما ظهرت عبارة أدب المقاومة "بعد تصاعد الدور السياسى والعسكرى للمقاومة الفلسطينية بعد هزيمة يونيو عام 1967، وكان من أهم نتائجها إحلال الثقة فى وجدان الشعوب العربية التى صدمت من جراء الهزيمة، فوجدت فى المقاومة ما يعيد إليها بعض اتزانها، وقد انصب اهتمام أدب المقاومة بصفة عامة ومسرح المقاومة بصفة خاصة على مواكبة الوجه الآخر للهزيمة وهو المقاومة،" مثلما نرى على سبيل المثال فى مسرحية "وطنى عكا" لعبد الرحمن الشرقاوى (1969)، حيث يقف هذا النص الشعرى على أسباب هزيمة 67 ويعزيها إلى الارتجالية وانعدام التخطيط، بالإضافة إلى التواكل والشكوى والتباكى على الماضى والتفاخر بانتصارات عفا عليها الزمن، كما يلفت النص النظر إلى "أهمية استمرار المقاومة وأن الانقسام فى صفوف العدو إنما جاء نتيجة صمود المقاومة، حيث يعلن ثلاثة ممن يمثلون المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تمردهم عليها ورفضهم لسياستها القمعية. وينتهى النص بإشعال فتيل المقاومة الشعبية من خلال صرخته: "اضرب اضرب. "
كما تصدى "الفريد فرج" للقضية الفلسطينية من خلال مسرحيته التسجيلية "النار والزيتون" (1970)، ونراه يلجأ إلى ما يسمى بالمسرح التسجيلى (*)ليرصد حركة الغزو الصهيونى لفلسطين العربية، والدور المشبوه للاستعمار الانجليزى فى التمهيد لهذا الغزو، حيث تطرق النص إلى وعد بلفور، مع ذكر نصه. وأنهى "الفريد فرج" مسرحيته بصرخة صادمة للقراء، بوجوب الاستيقاظ من أجل استرداد الحق الفلسطينى.
"المجموعة: انتباه!! قف!
إلى القدس تقدم.
افتح الأبواب لحرية بلادنا.
ارفع الرايات ترفرف.
فوق سناكى الفدائيين وعلى رؤوسهم ترفرف.
وإلى القدس... تقدم." 
وكما جاءت المعالجات المسرحية السابقة صريحة التناول, كان هناك كتابًا تناولوا القضية الفلسطينية فى أعمالهم المسرحية عن طريق الرمز، ومنهم "رشاد رشدى" فى مسرحيته "حبيبتى شامينا" (1972)، والتى تحكى عن "شامينا" أو "سوسنة" التي يحبها الراعي الشاب "راعين"، وفي الوقت نفسه يريدها الملك "سليمان" زوجة له، وهنا يقوم الصراع بين الحب وسلطان القوة والنفوذ. وفي النهاية ينتصر الحب؛ فبعدما أصبحت «شامينا» ملكاً لسليمان يتدخل راعين، ويدخل أرض سليمان ليعيدها، ومن خلال هذه الحبكة البسيطة تتضح الرموز فشامينا هي فلسطين، و"سليمان" هو العدو الإسرائيلى، و"راعين" هو الفدائي العربي أو ممثل المقاومة الفلسطينية. كذلك قام "محفوظ عبد الرحمن" بكتابة مسرحية "كوكب الفئران" (1968)، وفيها رمز للصهيونية وأفعالها فى الأراضى الفلسطينية بالفئران المفترسة التى أهلكت الأراضى الزراعية فى إحدى القرى الريفية. وأيضًا كتب "سمير الجمل" مسرحية "الأم" (1988)، وفيها رمز لفلسطين بالفتاة المغتصبة، كما رمز للعرب فى اختلافهم حول القضية الفلسطينية بأشقاء الفتاة المختلفين حول إيجاد الحل الأمثل لمأساتها. 

الثلاثاء، 14 أغسطس 2012

مسرحية ماما أمريكا بين التبعية الأمريكية والتثوير العربى


د/ابراهيم حجاج مدرس بكلية الآداب .... قسم الدراسات المسرحية.
انطلق الكاتب "مهدى يوسف" فى نصه "ماما أمريكا" من ثيمة إنسانية متكررة، وهى ثيمة الحرية، ثم جسدها تجسيدًا دراميًا، ليسجل احتجاجًا صارخًا على معاناة وطننا العربى فى ظل الواقع السياسى الراهن فى إطار كوميدى ساخر وإسقاطات سياسية لاذعة.
وسيتناول الباحث هذا النص انطلاقًا من إجراءات البنيوية التوليدية واستلهامًا من نزوعها المنهجى، وإطارها النظرى لإدراك التماثل بين الأبنية الفنية والأبنية الاجتماعية، مرتكزا على النقاط الآتية:
1- البنية الدلالية الكلية.
2- عملية الفهم.
3- عملية التفسير.
4- رؤية العالم.
5- الوعى الفعلى والوعى الممكن.
وسيبدأ الباحث بتحليل الأبنية الداخلية للنص (عملية الفهم)، فيدرس مجتمع النص (بنية الحدث ـ بنية المكان والزمان ـ بنية الشخصيات ـ بنية الحوار)، بهدف وصف البنية المتأصلة فى النص المدروس، والتفاعل القائم بين جزيئاته للوصول إلى البنية الكلية لهذا العمل الأدبى.
1- بنية الحدث
الحرية هى أسمى ما التصق بالإنسان من مبادئ منذ أن خلقنا الله سبحانه، وهى الزهرة التى تزين الديمقراطية، فمنذ أن عرفت البشرية النظام الديمقراطى، والحرية تحتل مكانا بارزًا فى مجموعة القيم والمبادئ، التى يتميز بها هذا النظام عن غيره من النظم والقواعد الدولية. ومنذ حصلت الولايات المتحدة على استقلالها، والحرية تمثل ركنًا أساسيًا فى دستورها، وفى إيمان الشعب الأمريكى بها، إلى حد أن التصق عالمها بالحرية وأصبح يطلق عليها "العالم الحر".
وكان من الواضح أن تسمية أمريكا بالعالم الحر فيه مغالطة كبيرة "ففى الوقت الذى كانت الدعاية الأمريكية تردد فيه هذا الادعاء، كان "ماكارثى" فى أمريكا يحاكم أى نشاط معارض للحكومة بتهمة النشاط المعادى للمصلحة القومية الأمريكية، ويصفه أيضًا بالشيوعية، وكانت وسائل الإعلام الأمريكية تمارس نشاطها المعهود فى غسيل مخ الأمريكيين، وتفقدهم بالتدريج عادة التفكير الحر والنقد لأى شئ فى النظام الرأسمالى.
وقد تناول الكاتب "مهدى يوسف"، ثيمة الحرية من خلال، علاقة أمريكا بدول العالم العربى، ليوضح مساحة الحرية التى منحتها الولايات المتحدة الأمريكية -بوصفها الإمبراطورية المهيمنة على العالم فى الوقت الراهن- للعرب فى ضوء علاقتها السياسية بالمنطقة العربية، وإلى أى مدى نجحت أمريكا فى إعلاء شأن الحرية وتدعيمها فى المحيط العربى؟.
اعتمد النص على البناء التراكمى فى صورة لوحات متعاقبة بترتيب سير الأحداث، حيث تتكون المسرحية من فصلين، الأول ينقسم إلى أربعة مشاهد، بينما يحتوى الثانى على ستة مشاهد. وبالرغم من تعدد المشاهد امتاز النص بطبيعة الحدث الأساسي الذى تنبثق عنه الأحداث التالية له، ويستدعيها على وجه الضرورة أو الرجحان.
فالحدث الرئيسى فى المسرحية، هو وفاة الأب "شحاتة" كبير عائلة "منافع" تاركًا وصية لأولاده الستة (عايش، علام، عذاب، عاشور، عبود، عفاف)، وكان وقع المفاجأة قويًا على الجميع، عندما علموا من، المحامى الموكل بفتح الوصية، أن والدهم الفقير المعدم، قد ترك لهم ثروة ضخمة تقدر بثلاثمائة فدان.
"مأمون: التلتميت فدان دول يا أخ عايش هايتقسموا عليكوا كلكم كاللآتى
الأخوة: (يفرحون ويهللون).
مأمون: أربعين فدان لأبنى البكرى المتيسر عبود.
عبود: الله يرحمك يا دادى الفتحة (يقرأون الفاتحة)
مأمون: أما ابنى علام سبعين فدان.
علام: سبعين يدخلونى أداب عين شمس. 
عايش: حلو قوى.. الله يرحمك يابا.. حلو أربعين وسبعين ميت فل وعشرة.. ها.
مأمون: أما ابنتى الوحيدة عفاف سبعين فدان.
عفاف: سبعين بس.. الرأى رأيك يا حنين..الله يرحمك بقى يابا. 
عايش: كدة مية وتمانين طاروا.. ها.
مأمون: وستين فدان لولدى عاشور.
عايش: اعدل ميزانك يا بتاع البرتقان....
مأمون: أما الستين فدان الباقية..... لولدى الذى لا يمكن أن أنساه.....ولدى عذاب"
وتثور ثائرة "عايش"، بعد أن خرج من تقسيم التركة خالى الوفاض ويحاول المحامى تهدئته، ويخبره بأن والده كان يعتبره درة إخوته وأكثرهم احتياجًا، لذا ترك له وصية منفردة، حيث خصص له أرضًا تقدر بمائتى فدان فى الجهة البحرية من أرضهم، على أن يكون لهم حق استغلال الأرض فحسب، ولعايش حق البيع والتصرف، ومن هنا يحدث الصدام بين "عايش" وأخوته، ويصل إلى درجة التطاول على الأب المتوفى والتشكيك فى قواه العقلية. 
وتعلو نغمة التطور الدرامى، لينتقل من المفاجأة إلى الصدمة التى وصلت ذروتها بإعلان المحامى أن هذه الأرض قد تم الاستيلاء عليها من قبل عائلة "الشفاط"، وأن أخاهم "عايش"، هو المنوط به استرداد حقه وحقوق إخوته من براثن المغتصب.
" مأمون: (مواصلا القراءة) ولكن أجدادكم كانوا يمتلكون ثروات وكنوز وخيرات نهبتها عائلة الشفاط... وعائلة الشفاط هى عدوكم اللدود على مر السنين... وعليك أنت يا عايش أن تتصدى لعائلة الشفاط لاسترجاع أرضكم العزيزة إلى قلبى، ومقابل أتعابك فى قضية استرجاع حقك وحق أخوتك تركت لك ملكية هذا الدار باسمك وحدك يا عايش
ويتنازع الأشقاء من جديد، بسبب الدار التى وهبها والدهم، "لعايش" دون غيره، ويعلن كل منهم أحقيته فى امتلاكها. وهنا يخرج المحامى مهرولا فى خوف، تاركًا لعايش مهمة تكملة قراءة الوصية، ليفجر آخر مفاجآتها.
"عايش: (يكمل القراءة) أما العربية الأجرة التى تعمل عليها يا عايش فأتركها لكم جميعا ترتزقون منها ومن إيرادها عليك يا عايش أن تسدد رهنية هذا الدار أربعين ألف جنيه.
ذلك هو الحدث الرئيسى الذى نسجت حوله باقى أحداث المسرحية، بعده يدب الخلاف بين الأشقاء الستة، ويتفق الجميع على بيع (العربية) القديمة، الشئ الوحيد الذى يربط بينهم، وتأتى سيدة الأعمال الأمريكية "أميرة كامل"، التى تهوى اقتناء كل ما هو قديم بصحبة مدير أعمالها "شومان" لشراء تلك السيارة، ولكن الحظ العاثر يعاند عائلة "منافع"، حيث تحترق السيارة قبيل وصولهما، وبالتالى تفشل الصفقة، وترفض "أميرة" بالطبع شراء السيارة المحترقة، ولكنها ـ فى الوقت ذاته ـ ترثى لحال "عايش"، وتتعاطف معه، فتعرض عليه تسديد قيمة رهن المنزل، فى مقابل استئجاره لمدة سنتين أو ثلاث، لجعله مقرًا لفرع مؤسسة "حماية حقوق الحمير" الأمريكية، التى ترأسها. وبالرغم من روح الكوميديا التى تسيطر على المواقف، لم يخل الحدث من إثارة ذهن المتلقى للتفكير فيه، وكان "عايش" خير عونٍ له فى ذلك، بانتقاداته الساخرة وأسئلته الاستنكارية التى يوضحها الحوار الآتى:
"عايش: مؤسسة أمريكية؟ جمعية حماية حقوق الحمير؟ الحمير الحمير؟ ولا الناس اللى زى الحمير؟
أميرة: أنا مش فاهمة أنت مستغرب ليه؟
عايش: مستغرب ليه؟ هما الأمريكان خلاص إدوا الناس حقوقها وبيرمحوا ورا حقوق الحمير؟ هى الحمير لها حقوق يا ناس؟
ومن خلال الأحداث، نكتشف طبيعة العلاقة التى تجمع بين "أميرة" و"شومان"، مما سيكون له الأثر فى دفع الحدث الدرامى إلى آفاق أكثر اتساعًا ورحابة.
"أميرة: شومان....شومان
شومان: جرى إيه با أميرة.... أنت عاوزة تودينى فى داهية أنا هنا مش شومان 
أميرة: خايف ليه... ما هو مش سامعنا؟
شومان: ده واحد... لسة اخواته الخمسة ماجوش.... ولو عرفوا إن إحنا من عيلة الشفاط حايدفنونا هنا بالحيا... ودول همج.
أميرة: جرى إيه يا شومان... وإيه اللى حايعرفهم إننا من عيلة الشفاط وبعدين حاتخاف من شوية عيال جرابيع زى دول... أنا أميرة كامل الشفاط".
ويكون وقع الصدمة على "عايش" شديدًا عندما يكتشف حقيقة "أميرة كامل"، لحظة توقيع عقد الإيجار، وتحاول إقناعه بأنها، وإن كانت تنتمى إلى عائلة "الشفاط" إلا أنها تختلف عنهم؛ فقد حملت على عاتقها إصلاح ما أفسدته عائلتها، وما ارتكبته من جرائم، فى حق عائلة "منافع".
"عايش: لو حطيت إيدى فى إيد أميرة كامل علشان أعيش إخواتى ح يعايرونى... ولو رفضت إيدها أو مساعدتها ح أموت م الجوع وإخواتى يذلونى... أحل اللغز إزاى؟ أحله إزاى... إزاى"؟
ويبدأ الفصل الثانى وقد تكشفت أطراف الصراع، الذى ستنسج خيوط أحداثه، بين عائلة "عايش شحاتة منافع" وعائلة "أميرة كامل الشفاط".
ويعتقد "عايش" أن التحالف مع أبناء عائلة الشفاط، سوف يعيد إليهم حقوقهم المسلوبة، لذا يوافق على تأجير البيت، والأكثر من ذلك يوافق على تعيينه مديرًا لفرع المؤسسة الجديد، مما يثير حفيظة أخوته.
"عايش: فجأة اخترقت جبهتهم... عملت عليهم السيناريو المحكم، أجبرتهم وأحرجتهم لحد ما عينونى مدير للجمعية.
علام: تبقى بعت القضية... وبعت عيلة منافع بثمن رخيص.
عايش: بلاش الكلام الكبير ده... أنا عملت كده بالذات علشان أخش فى زوارقهم... وأرجع كل اللى أتنهب من عيلة منافع." 
ويفشل الطرفان (الشفاط ـ منافع) فى الوصول إلى حلول ودية، بشأن الأرض المسلوبة، مما يدفع بالأشقاء إلى اللجوء إلى القضاء، ورفع دعوى بنفى الملكية، والادعاء بالتزوير للحصول على حقهم المغتصب. وينصف القضاء العادل عائلة "منافع"، ويحكم بعودة الأرض (المائتى فدان) لصاحبها الحقيقى "عايش شحاتة"، مما يثير حالة من الغضب والاستياء فى نفس "شومان"، و"أميرة"، وتدير الأخيرة باحتراف مقنن ومدروس خطة للإيقاع بعايش بوصفه أكثر أخوته اهتمامًا بالقضية، فتعرض عليه الزواج، بل وتذلل أمامه كافة العقبات التى تحول دون ارتباطهما.
"أميرة: لقيت الحل... عارف إيه الحل يا عايش... قوم يا عايش... أنا حاكتبلك نص ثروتى علشان تقرب المسافة بينا... فهمت يا عايش؟
عايش: أفهم إيه أنت أكيد اتجننتى... عاوزة تكتبيلى نص ثروتك قصاد إيه؟... قصاد البيت ده والميتين فدان؟
أميرة : إيه يا عايش... ما أنت حتبقى جوزى... أنا حسجلك عقد البيع وتعملى توكيل فى الشهر العقارى بالتصرف فى أملاكك علشان إخواتك ما يورثوكش.
عايش: المهم حنتجوز أمتى؟."
ويقرر "عايش" الزواج من "أميرة كامل"، وهى بدورها تقرر السيطرة التامة والدائمة، لا على ممتلكاته فحسب، بل على عقله أيضًا، وتكتمل خطوط مؤمراتها، بالاتفاق مع "شومان"، لإعطائه عقاقير تمحو قدراته العقلية والجسدية بوصفها منشطات لتقوية قدراته الجنسية، وذلك تمهيدا لاستلاب العائلة، أملاكها وأفرادها.
"شومان: أنا خايف يتحكم فيكى.
أميرة: مش حيلحق... لأنى هديله حقن الـ H.H الأمريكانى
شومان: الـH.H اللى بنديها للحمير علشان نزود قدراتها؟
أميرة: من الأبحاث السرية للمؤسسة فى أمريكا أنهم جربوها أكثر من مرة على إنسان وجابت نتيجة عكسية.
شومان: ودى حتعمله إيه؟
أميرة: بيحصله تغيرات.. صوته بيتغير ويفقد السيطرة على أطرافه والأهم بتمسح خلايا المخ تماما وتخليه زى الطفل."
ويكتشف "عايش" ـ بالصدفة ـ تفاصيل المؤامرة، ويقرر مواجهة الخداع بالخداع، فيتصنع الجنون، ويبدأ فى التحرك بصورة هيستيرية كالحمار، يملأ المكان ذهابًا وجيئا، إلى أن يركع على قدميه باكيًا مع دخول "أميرة كامل"، التى تخبره بأن المؤسسة قد اختارته كضيف شرف للمؤتمر السنوى العالمى الذى سيعقد فى أمريكا، وتطلب منه مقابلة موظف الشهر العقارى ـ قبل سفره ـ وذلك للتوقيع على توكيل، يحق لها بموجبه، التصرف فى كل ممتلكاته ويتقمص "عايش" -أمام موظف الشهر العقارى- شخصية طفل رضيع، ويبدأ يلهو ويعبث بكل ما حوله، إلى أن يمزق ورق سجل التوكيلات، مما يثير غضب الموظف، ويدفعه إلى الانصراف دون تكملة الإجراءات.
"شومان: كده... كده يا كلب ... مش قلنالك انكتم (يضربه على يده كالأطفال) وبعدين حنعمل حكاية التوكيل ده ازاى؟
أميرة: مش مهم... احنا نقدر دلوقت بعد اللى هو فيه ناخد البيت والأرض والمية.
عايش: أمبو ماما ما... أمبو.
شومان: ده غير اللى حتدفعه المؤسسة. لما نقدم لها حالة زى دى.
أميرة: بس ده لازم يفضل فى البيت لحد ما ناخده ونسافر أمريكا."
هنا يقتحم أشقاء "عايش" المشهد فى هلع وثورة، بعد معرفتهم بحقيقة المؤامرة التى تم تدبيرها لتدمير شقيقهم واستلاب عقله، مطالبين "أميرة" بتسليمه إليهم، وتبوء محاولتهم بالفشل، بعد تدخل الحرس الخاص بٍأميرة كامل، واجبارهم على الرحيل. وفى تلك الأثناء يدخل "عايش"، وهو يحبو على ركبتيه، متجها نحو "أميرة كامل" صائحا فى بكاء.
"عايش: ماما ماما.
أميرة: ماما أميرة كامل.
عايش: ماما أميرة كا... أميرة كا... أميرة كا."
ويأتى المشهد الختامى للمسرحية أمام تمثال الحرية فى أمريكا حيث تتم عملية المكاشفة بين "عايش" و "أميرة"، فهناك يواجهها عايش بالحقيقة، وبعلمه بتفاصيل المؤامرة التى دبرتها ضده، بالتعاون مع "شومان"، ويعلن فضه للرباط الذى يقيده بها، فيطلقها ثلاثًا، مشيرًا باصبعه مؤكدًا يمينه، وهنا يحدث دوى انفجار قوى يتحطم على أثره تمثال الحرية ويتناثر حطامه، بينما يقف "عايش" مبهوتا، كما لو كان لا يصدق ويموج المسرح بحركة هرج ومرج، وتدخل قوات أمن أمريكية وتحاصر "عايش"، الذى قد أصبح وحيدًا بعد فرار "أميرة" و "شومان"، ويتجمع عدد كبير من الشباب والفتيات الأمريكان، بينهم فتاة عربية، وبعد تفحص أوراقه والتأكد من هويته (عربى ـ مصرى) يتم القبض عليه بتهمة الارهاب، وتحاول الفتاة العربية الدفاع عنه دون جدوى، وهنا يفيض الكيل بعايش، ويفجر ما بداخله من ظلم ومعاناة.

"عايش: لأ مشى حاجى معاكوا... لازم تقولولى الأول جريمتى إيه؟ اتكلموا يا بتوع حقوق الإنسان... طب حقوق الحمير حتى.... هى إيه الحكاية؟ هو أنا يا عقلى يتمسح ياتطلعونى فى الآخر ارهابى... لا حاتكلم... حاتكلم عن بلاويكوا السودة فى العالم كله... حاأتكلم وأقول أنتوا إيه؟ حاأقول أنتوا إيه؟"
ويوجه "عايش" نداء إلى كل عواصم العالم لتنتبه إلى هذا النظام العالمى الجديد الذى وضع لتدمير المنطقة العربية، ويختتم نداءه بدعوة حب تجمع الإنسانية كلها.
ومن الوصف السابق لبنية الحدث الدرامى فى مسرحية "ماما أمريكا"، يتضح اعتمادها على ثنائية "التابع والمتبوع"، وهى ثنائية رئيسية تدور فى فلكها ثنائيات عديدة مثل (الفقر والغنى) و (الاستلاب والاسترداد) و (التغييب واليقظة) و (الضعف والقوة). هذا بالإضافة إلى ارتكازها على الكوميديا النابعة من المواقف والشخصيات، حيث ساعدت السخرية الحادة ـ فى بعض الأحيان ـ على تكثيف الموقف وإطلاق أقصى طاقات التعبير عنه، "كمشهد إعلان الوصية، حيث قام المحامى بإعلان ما جاء فيها تدريجيًا مفجرًا المفاجآت التى تدعو إلى الضحك."، ومشهد تأجير البيت لجعله مقرًا لمؤسسة حماية حقوق الحمير. إلى جانب المواقف المعتمدة على سوء التفاهم مثل مشهد تعرف "أميرة كامل" على "عايش شحاتة" واندهاشها من الاسم الذى استقبلته فى البداية على أنه وصف للحالة المعيشية التى يحياها.
"أميرة: قولى... إسمك إيه؟
عايش: أنا عايش شحاتة.
أميرة: طيب... إسمك إيه؟
عايش: دى فلة بقى ولا إيه... أنا عايش شحاتة.
أميرة: خلاص عرفت... إسمك إيه بقى؟
عايش: لا إله إلا الله... أنا عايش شحاتة... والله أنا عايش شحاتة وكتاب الله أنا عايش شحاتة.
أميرة: ما أنا فاهمة أنت عاطل يعنى.
عايش: لا أنا مش عايش شحاتة... بس أنا عايش شحاتة." 
أما النوع الآخر من روح الكوميديا الذى يتسلل إلى جسم المسرحية، فينهض على الشخصية نفسها، خاصة شخصية البطل "عايش"، عندما يحاكى "الحمار" أمام "أميرة كامل"، و "الطفل الرضيع" أمام موظف الشهر العقارى، بجانب تلاعبه بالألفاظ، واستخدام اللفظ الواحد بأكثر من معنى.
"عايش: الفاتحة
الأخوان: بسم الله الرحمن الرحيم (ويقرأون الفاتحة).....
عايش: (مصححا) الفاتحة.... الفاتحة بتاعة الوصية بتاخد فيها كام يا أستاذ؟"
كما تضمن البناء الدرامى بعض الملامح التغريبية مثل تقسيم المسرحية إلى مشاهد والخطاب المباشر إلى الجمهور فى نهاية النص، إلى جانب توظيف الأغانى بقصد توصيل الحالة الوجدانية للموقف الدرامى، أو تلخيص معناه، ومثال ذلك الأغنية التى أعقبت قراءة الوصية.
"عايش: عينى ع الحق المديون
سيدى على البيت المرهون.

دى حقوقنا اللى ورثناها
دى ديون مديونة بديون.

الصوت: مكتوب عليك يا عايش
تشيل إنت الوصية.

وعشان تعيش يا عايش
خد بالك من القضية.

لخواتك من أيديك
شيلهم فى حبابى عينك.

عايش: دنا عايز حد يشيلنى
أنا عايز اللى يعنى." 

"كما ساهمت الأغنية فى نهاية المسرحية فى لعبة التحريض والرفض"، وتقديم المقولة الأساسية للنص بعد اكتشاف "عايش" للحقيقة وسقوط الأقنعة عن "أميرة كامل" و"شومان".

"عايش: يا كل فرد فى كل ملة 
وكل جنس وكل دين.

يا كل فرد فى كل حتة
ويا فرد فرد فى أى حتة.

مافيش ضعيف
مافيش قوى.

مافيش فقير
ومافيش غنى

مافيش أبيض ولا أسود
مرفوضة العنصرية

الفتاة العربية: الله عليها خطوتك
وجنب منها خطوتى

عايش: الله عليها سكتتك
لما تقابل سكتتى

عايش والفتاة:نفرح سوى
نبنى سوا

نقسم سوى
نسمة هوا"

وقد جاء البناء الدرامى كنسيج متماسك ومتشابك من الأحداث التى تكشف ببراعة عن العلاقة بين الاختلاف بين الأشقاء الذى أدى إلى نهب ثرواتهم، واتفاقهم وتوحدهم فى النهاية، الذى أدى إلى استعادة قدرتهم على المواجهة. 
2- بنية المكان والزمان:
يعتبر المكان، أحد الوسائل التى تحمل مضمون النص المسرحى، وهو جزء من نظرية تفاعل المتلقى مع النص. وقد استخدم الكاتب فى نص "ماما أمريكا" انتقالات سريعة للمكان من منزل "عايش" إلى الجمعية الأمريكية لحماية حقوق الحمير، إلى غرفة نوم "أميرة كامل"، إلى ساحة تمثال الحرية بنيويورك.
تبدأ المسرحية بمنزل عائلة "عايش"، وهو عبارة عن "أحد القصور القديمة المتهالكة، فى ضاحية من ضواحى المدينة، بهو قصر وجدران بالغة القدم، يحيط به ست غرف بستة أبواب أثرية مختلفة الطراز، ولكنها متشابهة بملمح عربى قديم، ويوجد فى المؤخرة باب حمام مشترك للغرف الست، إلى اليمين يوجد مدخل البهو المؤدى إلى الخارج (خارج القصر)، وفتحة المسرح تمثل الحائط الرابع للبهو الصغير، الذى نرى به بعض الأثاث من كنبة شرقية، ومرآة كبيرة لها إطار عربى من الخشب المشغول، وهناك أيضًا قاعدة خشبية قليلة الارتفاع، عليها صينية نحاس مشغولة بالحفر، مستديرة فى شكل طبلية، وعدد ست ديوانية من الجلد كمجلس، وفرشة أرضية من قصاقيص القماش الملون الموصول فى شكل سجادة، يوجد فى المؤخرة منضدة متهالكة بجوار أحد الحوائط بين بابى غرفتين، وتوجد ساعة حائط لا تعمل، عليها آثار تراب، وعقاربها ثابتة عند الثانية عشر، ونتيجة حائط ورقية يبدو عليها القدم."
وبذلك يحتمل "البيت" دلالة مزدوجة، واقعية كبيت عادى لمواطن ما، ورمزية بما يشير إليه من دلالات مكونة فى النهاية فكرة البيئة العربية، على اختلاف أنماطها. وإلى جانب تصور المكان فى النص باعتباره حاملا لمعنى ولحقيقة أبعد من حقيقته الملموسة، فثمة علامات مادية تعمق دلالات معينة، وتؤكدها، منها ساعة الحائط بعقاربها الثابتة عند الثانية عشر، ونتيجة الحائط الورقية القديمة، وما تحملاه من دلالة تخلف أصحاب البيت عن مسايرة الحاضر، ووقوفهم عند حدود الماضى.
فى الفصل الثانى يكتسب المكان دلالة جديدة، "وقد طمست فيه الملامح الشرقية، ولم يبق منها إلا القليل، وأصبح المكان مقرًا لجمعية حماية حقوق الحمير، مما استوجب وضع بعض اللوحات على شكل هيكل عظمى للحمار، ذو جمجمة، والمكان أصبح يتسم باللمسات العصرية الغربية الفجة، وقد يحدث بعض التغيرات المعمارية للتلائم مع الأحداث الجديدة، والأثاث قد تحول إلى أثاث عصرى." وبتلك التحديدات المكانية السابقة - بمقارنتها بالفصل الأول – يمكننا أن نرصد ثنائية (المكان/ المكان المضاد)، بحيث تشكل تلك المفارقة المكانية إحدى الدلالات الرئيسية فى النص، وهى دلالة التبعية القائمة على طمس الهوية. وينتقل المكان فى المشهد الثامن إلى "حجرة النوم الرئيسية فى قصر "أميرة"، حجرة كبيرة وفخمة، بها سرير مستدير حوله ست (بوفات)، وهناك أيضا تسريحة ومنضدتان، وأباجورات تستخدم كمصادر للإضاءة وهناك باب حمام داخلى والباب الرئيس للحجرة، كما يوجد ثلاث عدد تليفون ملونة وماكينة فاكس، وتليكس وكمبيوتر وشاشة تليفزيون" وبهذا الوصف، يحمل المكان صفات يخرج بها عن طبيعته المنطقية كمكان للنوم والراحة، فى دلالة على قيمة الكد والعمل المناقضة لحالة السكون والاسترخاء فى منزل عائلة "عايش". وفى المشهد الأخير ينتقل المكان إلى "ساحة تمثال الحرية فى نيويورك حيث هو قائم مجسد على خشبة المسرح فى حجم كبير فى المؤخرة". ويكتسب المكان دلالته فى هذا المشهد عند حدوث الانفجار وتناثر أجزائه، فى دلالة على هشاشة الحرية فى أمريكا.
وبذلك استطاع الكاتب من خلال المكان، تقديم دلالات متسعة ومتنوعة تخدم رؤيته الفكرية.
كما يصف الشاعر زمن المسرحية تبعا لأبعاده الواقعية، ابتداء من الإطار العام (الوقت الحاضر)، وحتى التنويعات الداخلة ضمن تركيب الحدث والسياق، فيبدأ النص وقت الغروب، بما يناسب الحالة النفسية لأفراد عائلة "عايش" فى ظل الوضع المتردى الذى تعيشه، والبيت المتهالك الذى تقطنه هذه العائلة. ثم يتوزع الزمن بعد ذلك تباعًا بين مطلع الفجر وبداية النهار.
كما يوظف الكاتب الإضاءة بشكل تعبيرى فعال للدلالة على ثنائية القوة والضعف، فيستخدم الإضاءة الخافتة التى تعطى الإحساس بالظلام، فى مشهد بيت "عايش"، حيث يظهر كالأطلال المهدمة، بينما يستخدم الإضاءة القوية المبهرة فى مشهد حجرة نوم "أميرة كامل".
3- بنية الشخصيات:
الشخصية من العناصر الأساسية فى النص الدرامى، "وتكمن أهميتها فى كونها محرك الحدث ومحوره، وعلى أساسها تعمل الحبكة، وهى الناطق الوحيد بعقل ولسان الكاتب، ومن خلالها يعرض مجمل أفكاره داخل صراع درامى" يزخر بالحركة والإيقاع المتدفق.
وتشكل الشخصيات فى نص "ماما أمريكا" ثنائية درامية هى (التابع والمتبوع)، (الفقير والغنى)، (الضعيف والقوى)، ومن التناقض بين طرفى الثنائية يتولد الصراع الدرامى بين عائلة "عايش"، وعائلة "أميرة كامل الشفاط".
"وتمثل شخصيات عائلة "عايش" حالة التفسخ الاجتماعى والتطاحن بين الأخوة، فمثلا الأخ الأكبر "عبود"، نموذج الغنى الأنانى، الذى يتاجر فى كل شئ، وأى شئ، ويرمى لإخوته ما تبقى منه من الفتات، بل ويطمع فى ميراث الأب، ويسرق حق أخيه "عاشور" الذى يعمل معه كأجير فى أحد مصانعه، والذى يمثل القوة الفاقدة للعقل والتدبر، والأخ الأصغر "عذاب"، السلبى الذى يتاجر بمرضه الوهمى، من أجل كسب عطف الآخرين، وابتزازهم ماليًا، والأخ المثقف "علام"، مدرس التاريخ الغائب عن الوعى بفعل تعاطى المخدرات، والذى لا يتحدث إلا عن الأندلس والمجد العربى الماضى والغائب، ثم الأخت الوحيدة "عفاف"، التى فشلت فى كل تجاربها، الحياتية والعاطفية، وتعيش معلقة- فى انتظار ما تسفر عنه قضية طلاقها- فى منزل العائلة، الذى يحوى كل هذه الأنماط المتناقضة، بما فيهم "عايش" الذى يرعى إخوته، ويحمل همومهم إلى جانب رعايته لأولاد زوجته المتوفاة (من زوج آخر). وتصل الخلافات بين "عايش" وأخوته، إلى حد اتفاقهم – مثلا – على ألا يتزاوروا حتى لا يختلفوا.
"عبود: أول هام.. الفلوس والسلف لما بيخشوا بينا بيحصل خلافات.
عايش: خلاص مافيش حد فينا يسلف التانى.. المهم نفضل إخوات.
عاشور: تانى هام.. إحنا لما بنشتغل مع بعض ونتشارك فى مشروع بيحصل بينا فرقة وخناقات.
عايش: خلاص مافيش بينا شغل.. المهم نفضل إخوات.
علام: تالت هام.. لما بتنافس فى شئ يهمنا أو ما يهمناش، كل واحد فينا عاوز يمشى رأيه على التانى فبتتربى فى نفوسنا عداوات.
عايش: ماشى مافيش بينا مناقشات.. المهم نفضل إخوات.
عذاب: رابع هام.. لما حد فينا بيتخانق مع أخوه.. لو حد فينا إدخل بينهم بيشعللها أكتر.. ويبقى بينا كلنا أزمات.
عايش: خلاص مافيش أخ يدخل بين أخ وأخوه.. المهم نفضل إخوات.
عفاف: خامس هام.. إحنا لما بنزور بعض وكل واحد بيشوف حال التانى بيحسده وممكن يوقع أهل بيته فى بعض فبتحصل حزازات.
عايش: خلاص بلاشى نزور بعض.. وأهى العربية حتتباع يعنى مش حيفضل بينا حاجة."
وقد تعمد الكاتب "تسمية بعض الأشخاص بمعانيها مثل، عايش شحاتة: الفقير المعدم، علام: المثقف، عذاب: المريض".( ) كما تمثل "أميرة كامل" و"شومان" قطبا عائلة "الشفاط" مع التركيز على دلالة اسم (الشفاط)،- بكل ما يحمله من معانى النهب والاستيلاء – الطرف الأقوى فى الصراع الذى يستثمر حالة التفكك التى يعانى منها الأشقاء الستة، ليسيطر على ما تبقى من أملاك العائلة وأفرادها، وتدمير عقلها المفكر "عايش".
وتمر شخصية البطل "عايش" بمرحلتين:
• مرحلة الوعى الفعلى (الوعى السلبى بالحاضر)
• مرحلة الوعى الممكن (الوعى المتفجر)
• مرحلة الوعى الفعلى: فيها يقرر "عايش" قبول المساعدة من "أميرة كامل" ومشاركتها العمل فى مؤسسة حماية حقوق الحمير، بل والزواج منها، واهمًا أنه يستطيع بذلك استرداد حقوقه وحقوق إخوته المسلوبة. وفى هذه المرحلة يوظف الكاتب ملابس الشخصية كعلامات قابلة لعملية الإزاحة المستمرة من الشئ إلى المغزى، فمثلا بدلة الزفاف، بيضاء بخطوط طولية سوداء، وحذاء ضيق يسبب له مشكلة فى السير، دلالة مرادفة لتحول "عايش" بعد زواجه من "أميرة كامل" إلى تابع متعثر الخطى، بلا عقل (حمار).
• مرحلة الوعى الممكن: يبدأ بعلمه بالمؤامرة التى دبرتها "أميرة كامل" ضده بالتعاون مع "شومان"، وقراره بالمواجهة، وفضح ألاعيب "أميرة كامل، التى لا تختلف عن ألاعيب أمريكا كقوة استعمارية جديدة، وقراره بالانفصال عنها.
وتتحدد صورة "عايش" بالتضاد مع صورة "أميرة كامل" التى تطورت بنية شخصيتها من خلال ثلاثة محاور أساسية هى:
• مرحلة القناع: وهى المرحلة التى ارتدت فيها "أميرة كامل" قناع الفضيلة والبراءة، فتقدم نفسها لعايش بوصفها ملاك الرحمة الذى سيزيح عنه همومه ويخلصه من مشاكله، وذلك بهدف استمالته وكسب ثقته تمهيدًا لاستلابه.
• مرحلة التآمر: وتبدأ مع تآمرها بالتعاون مع "شومان" لاستلاب عقل "عايش" بحقن H.H الأمريكية وانتهت بفرض سيطرتها الكاملة عليه.
• مرحلة سقوط القناع: وبدأت مع كشف "عايش" لحقيقتها ومواجهته لها، وفيها لزمت الصمت ثم فرت هاربة، بعد انفجار تمثال الحرية.
إن أى نص مسرحى يشتمل بالضرورة على موقف وصراع واشتباك وجدل وتحول وتغير، "وفى كل تجربة مسرحية حقيقية يتفجر نوع من الصراع أو المعارضة بين صورة العالم التى يتبناها النص المسرحى وصورة العالم فى ذهن المتلقى، وقد ينتهى الصراع، إلى تغيير الوعى بدرجات تترواح بين الخلخلة أو التنوير الكامل،"( ) كما حدث لعايش بطل نص "ماما أمريكا" فى نهاية المسرحية.
"عايش: ملعون اليوم اللى نسيت فيه وصية أبويا ومشيت فى سكتك سكتك اللى بدأتها بأول خطوة تنازل جت بعدها تنازلات كتير.. ملعون اليوم اللى صدقت فيه إنك ممكن تقفى مع الحق ضد ابن عمك.. نظام إيه ده اللى عايزة تاخدى بيه بيتنا وأرضنا وميتنا وفوق منهم كرامتنا؟.. نظام إيه ده اللى مشغللنا فيه حقوق الإنسان حسب مزاج أهلك.. بس أنا مش حمار يا أميرة كامل.. أنا لحقت عقلى فى آخر لحظة فى (الإن تايم) وخليت إخواتى يشوفوا السكة اللى كنتى عاوزة تاخدينا فيها دلوقتى أنا فضلى عقلى وعلشان تفضلى كرامتى.. إنتى طالق.. طالق.. طالق."
وبذلك ينتهى الصراع بتحرر "عايش" وعائلته من أسر "أميرة كامل"، بعد أن استرد وعيه قبل فوات الآوان.
- بنية الحوار:
الحوار هو القالب اللغوى الذى يصب فيه الكاتب الدرامى عباراته، "ويعتبر الحوار أحد الوسائط الهامة فى التعبير الدرامى، فهو ينقل لنا حال الشخصيات، ومحط همومها، كما يفضح الغاية التى تسعى إليها."( )
وقد ارتكز الحوار فى نص "ماما أمريكا" على الكوميديا والدعابة اللفظية التى تتشكل طبقًا لمتطلبات المواقف وطبيعة الشخصيات، حيث اعتمد النص على التلاعب بالألفاظ، والتعليقات الذكية الساخرة السريعة المتلاحقة، التى لا يكمن هدفها فى الترفيه والتسلية والإضحاك فحسب، ولكنه يتركز أيضًا فى الإيحاء بمعانى ومدلولات تجسد فكر الكاتب، وتقربه من وجدان المتلقى، الذى قد يضحك ولكن ضحكه لا يعلو على صوت القضية التى يطرحها النص.
وقد استخدم الكاتب حوارًا نابعًا من روح الحياة اليومية المعاصرة فى حديث الشخصيات، وحشده بالعديد من الثنائيات اللفظية مثل (القوة والضعف)، (الفقر والغنى)، (الكرامة والإذلال)، (الفرقة والاتفاق)، (الحب والكراهية)، (الزيف والحقيقة)، (الانتصار والهزيمة)، وغيرها من الثنائيات التى ساهمت فى إبراز الصراع الدرامى بين الشخصيات.
كما فرضت طبيعة شخصية "أميرة كامل" (السيدة الأمريكية)، ورجال الأمن الأمريكى فى مشهد انفجار تمثال الحرية، استخدام مفردات أجنبية مثل.
• أميرة كامل : آى آم هير – إن ديرتى هاوس – نوت ناو – كول مى أجين – آى آم بيزى ناو – جود باى – نايس تومى يو – سيت داون بليز.
• رجال الأمن الأمريكى: دونت موف – يور باسبورت بليز – آريو إيجبشين - يو آر إيه تيروريست.
ومن خلال المفردات الأجنبية، تولدت ثنائية لفظية جديدة، فرضت نفسها على النص وهى (إتز تو ليت – إن تايم) بمعنى (متأخر جدًا – فى الوقت المناسب)، حيث تم استخدامها فى أكثر من موقف للدلالة على أن مأساة "عايش" وأسرته، تكمن فى وصولهم دائمًا فى التوقيت الخاطئ، بعد فوات الآوان (إتز تو ليت).
"عايش: المشكلة يا هانم إنك من عيلة الشفاط، والمشكلة الأكبر إنى عرفتك بعد فوات الآوان فى الاتز توليت، ودبحتينى فى إلان تايم."
كما جاء الحوار متسقًا مع طبيعة الشخصيات، وتطور الموقف الدرامى، وظهر ذلك جليًا من خلال شخصية "عايش".
• مرحلة الوعى الفعلى: جاء الحوار مثقلا بالمفردات اللفظية والتعبيرات التى تحمل معانى الخنوع والاستسلام والتبعية المطلقة والرغبة فى التعايش.
"عايش: أنا حا نزل أجيب جردل علشان أسيق الأرض.
أميرة: تعالى هنا.. إترزع, (ينفذ عايش فى خوف وأنكسار) أتعلم تسمع الكلام.. ومن هنا ورايح أقول يمين يبقى يمين أقول شمال يبقى شمال.. أقولك تقعد مع أخواتك تقعد أقولك توفقهم مع شومان تنفذ فاهم؟.
عايش: فاهم يا ست الرجالة."
يبرز الحوار السابق سمات شخصية "عايش" فى هذه المرحلة كشخصية منكسرة، تابعة، منهزمة داخليًا.
• مرحلة الوعى الممكن: فيها يخرج الحوار عن حدود الخضوع والاستكانة لتتحدد معالمه فى إطار نقيض تمثله المفردات والجمل الحوارية الآتية:
(غصبن عن عين أهلك عايش – أنا مش حمار – لا مش حآجى معاكوا – لا حاتكلم – اتكلموا يا بتوع حقوق الإنسان – اسمعنى يا عالم – انتبهوا).
ومعظمها يعتمد على صيغ النفى وأساليب الأمر، فى دلالة على عملية التحول فى شخصية "عايش" – فى تلك المرحلة – شخصية ذات إرادة، تعى ذاتها وحقوقها المستلبة.
كما حمل الحوار العديد من الدلالات التى أعانتنا على تتبع تطور شخصية "أميرة كامل" من خلال:
• مرحلة القناع: حيث حمل الحوار بالكثير من الجمل والمفردات التى توحى برغبتها فى كسب ود "عايش" واستمالته فاستخدمت عبارات تحمل معانى التعاطف والإشفاق والاستعداد للمساعدة وبث روح الأمل فيه مثل (لازم يكون عندك أمل – أنا بأضعف قدام أى إنسان مظلوم – مش عارفة حاسة ليه إنى أعرفك من زمان – إنت هزتنى – لازم يبقى فيه عدل فيه حب فيه رحمة – إنت ما تستهلش الشفقة أنت تستاهل أن حد يقف جنبك ويحتويك).
• مرحلة التآمر: وفيها ينتقل الحوار من طبيعته الناعمة إلى مستوى عدوانى، محمل بجمل ومفردات تنم عن رغبة "أميرة كامل" فى فرض هيمنتها على "عايش" واستلابه أرضًا وعقلا، مثل (حاخلص منه – حاخليه يمشى على إيديه ورجليه – بعد اللى هو فيه حناخد البيت والأرض).
وبذلك تشكل بنية الأقوال فى النص العديد من المعانى والدلالات، التى أسهمت بدورها فى فهم البنية الفكرية للنص وطبيعة شخصياته.
البنية الدلالية الكلية وتماثلها مع النسق الاجتماعى:
يتضح من التحليل السابق لبنيات النص المسرحى "ماما أمريكا" مدى التفاعل القائم بين جزيئاته الداخلية، والتى كشفت عن عدد من المقولات الأساسية المتمثلة فى (التابع – المتبوع – الاستلاب).
حيث تجسد البنية الكلية للنص مفهوم التبعية المقترن باستلاب العقل والأرض، وتحذر من تجاوزاته وتنبىء بأخطاره، وتطالب بمواجهته.
وسيحاول الباحث ربط البنيات الدالة داخل هذا العمل الأدبى بنسق اجتماعى خارج النص، وذلك من خلال الخواص الأساسية للبنية الإبداعية ومدى تمثيلها لرؤية متناسقة للعالم على مستوى المفهوم والصورة اللفظية والمكانية والشخصيات والأحداث. فالرؤية الفكرية للكاتب "مهدى يوسف" – فى عرف البنيوية التوليدية – قد تجاوزت أفق الرؤية الفردية الخاصة بالمؤلف إلى آفاق أكثر اتساعا، متمثلة فى رؤية جماعة اجتماعية محددة مثل طبقة المثقفين اليساريين العرب – التى ينتمى إليها الكاتب، "بوصفه كاتبًا اشتراكيًا" – لعلاقة العرب بالولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها علاقة قائمة على التبعية، وفرض الهيمنة، وهى رؤية واقعية – من وجهة نظر الباحث- ومغايرة فى الوقت ذاته لرؤية جماعة أخرى، "كطبقة المثقفين اليمينيين، ممن يرون فى أمريكا صورة الأحادية القطبية لعالم الغد والسيد الفعال دائم الحضور فى عملية التحول الرأسمالى العالمى. أو طبقة المثقفين الليبراليين الذين يرون فى أمريكا مثالا حقيقيًا للديمقراطية ودعم الحريات".
ومن خلال دراسة البنية المتكررة من مقولات (التابع – المتبوع – الاستلاب) يمكن الكشف عن التماثل البنيوى بين بنية النص الداخلية، وبنية المجتمع الخارجية باعتبارها بنية أوسع ولدت بنية العمل الأدبى.
فالصراع بين عائلة "عايش شحاتة منافع"، وعائلة "أميرة كامل الشفاط" ما هو إلا صراع بين الدول العربية، سواء الفقيرة المعدمة أو الغنية صاحبة المصالح، كتابع، وبين القوة العظمى الوحيدة فى العالم (أمريكا)، كمتبوع، ذلك الصراع الذى فرض نفسه على الساحة السياسية منذ الحرب العالمية الثانية حتى وقتنا الراهن.
ومن هنا يمثل أفراد عائلة "عايش" تنويعات على أنماط من الدول العربية المختلفة، فعايش يمثل مصر صاحبة الدور الريادى ولم شمل الأخوة العرب، ورعاية مصالحهم، وحمل همومهم.
"عايش: ضحيت بمستقبلى علشان أصرف على أبوكوا اللى ماحدش فيكم سأل فيه قبل ما يموت. علشانك يا هانم بعد ما رجعتيلى بشنطة هدومك فاضية ومطرودة من بيت جوزك.. علشان خاطر أخوكوا عذاب اللى قافل ورشة نجارته ومستحلى مرضه.. ولا أخوكوا علام اللى كل شوية هات يا عايش هات ياعايش، بعدما اطرد من التدريس لأنه شايف التاريخ كله مزور.. فى الوقت اللى كان فيه عبود وعاشور بيجروا علشان يعبوا كروشهم ويكنزوا، لأنهم مطمنين إن أخوهم عايش الحمار شايل حمل عيلة منافع على كتافه لوحده." 
بينما يمثل "عبود" الأخ الثرى الأنانى الذى ينفق أمواله ببذخ على الراقصات، نموذجًا لبعض دول الخليج العربى الغنية بالبترول، والتى لا ترى ضررًا من التعاون مع أمريكا، وتغليب مصلحتها الذاتية على المصلحة القومية.
"عفاف: أتكلم يا عبود.. الهانم وصلتلك إزاى علشان تشاركك فى مصنعك.. قال إيه خايفة عليك من أخوك عاشور.
عبود: ما هو اللى عمل عليا بلطجى، وحاول يسرق البضاعة من ورايا علشان يبيعها ليها.
علام: أيوة.. كنت بخلص حقى.
عذاب: وما عرفتش تاخد حقك.. تحرق له مصنعه.
عفاف: وحرقته بأس مين يا عاشور.. مش أنت برضه وزيته (إلى أميرة كامل) وبكرة تلف وتدور عليك أنت كمان يا عبود وتأكل مصنعك. 
عبود: لا تأكل مين؟ دى بتحمينى وفيه مصالح بينا.. والمصنع بتاعى واليافطة لسه عليها اسمى.
عفاف: اليافطة بس يا عبود.. يعنى من بره الله الله ومن جوه يعلم الله."
ويمثل "عاشور" (البلطجى) كما يتضح من الحوار السابق، دولة العراق كثانى أكبر قوة عسكرية فى المنطقة العربية، والتى تلوح باستخدام القوة بين الحين والآخر لخدمة مصالحها، ولو على حساب أشقائها – كما حدث فى غزو الكويت – "أما "عذاب" فيمثل الدول الفقيرة التى عانت ويلات الحروب، كما يمثل "علام" مدرس التاريخ الباكى على مجد العرب الضائع فى الأندلس، بلاد المغرب العربى."
"علام: الخطأ التاريخى يتكرر.. فى الباب الرابع من كتابى واندلوساه.. الدول الكبيرة المستفحلة اللى معاها وما بتديش (بنظرة تحذير) فاهمنى يا عبود؟ حاتدور عليها الدواير وحاتبقى زى الدول اللى راحت فى الباى باى وبقت كحيانة وعدمانة زيك يا عذاب."
وأخيرا تمثل "عفاف"- كما توضح "رانيا فتح الله"- فلسطين. "فعفاف هى الشقيقة التى تود الخلاص من زوج فُرض عليها، ولا تحبه، ولازالت قضية طلاقها منه - ومنذ سنوات عديدة- معلقة فى ساحات المحاكم، للبت فيها، وتعيش "عفاف" حالة من الانتظار العقيم لحكم قد يمنحها حريتها، أو يفقدها إياها إلى الأبد، وترى "رانيا فتح الله" أن ظروف "عفاف" هى الظروف نفسها التى تعيشها فلسطين فى ظل انتظارٍ غير مجدٍ لحل قضيتها، وتخليصها من عدو غاصب فُرض عليها وأفقدها حريتها واستقلالها"( ).
ويمكن ملاحظة بداية أسماء الأشقاء الستة بحرف العين، وهو ما يحيلنا إلى تمثيلهم للعرب، وبناء على ما تقدم يمكن اعتبار "تدهور أحوال عائلة "عايش"، ما هو إلا تماثل - ذو دلالة- لتدهور أحوال الدول العربية بعد ضياع الخلافة العثمانية."
كما تمثل "أميرة كامل" فى نص "مهدى يوسف" دولة أمريكا بقوة نفوذها وهيمنتها على الجميع، وقد تجسد هذا التماثل فى النص "حين ركع "عايش" - قبل نهاية المسرحية - أمام "أميرة كامل" ليناديها (ماما أميرة كامل) ثم يتعثر نتيجة حقن الهلوسة التى يتعاطاها، فلا يستطيع إكمال الجملة، فتخرج (ماما أميره كا) لتعكس لب القضية المطروحة فى العمل وهو الخضوع للاستعمار الجديد."
وقد حمل عنوان المسرحية – نفسه – دلالة تتضمن فى طياتها المقولة الأساسية للمسرحية. فأمريكا هى الأم التى قد تحنو تارة على صغارها عندما يكونون أطفالا طائعين، ممتثلين لأوامرها، أو تلقى باللوم والتوبيخ تارة ثانية، عندما يشذ أحد أطفالها عن الطريق القويم الذى رسمته له، أو يخالف أحد تعاليمها التى لقنتها إياه، وقد تقسو تارة ثالثة، فتصفع طفلها إذا تجرأ عليها أو انتقدها، أو رفض وصايتها لإحساسه بذاته، وبأنه قد بلغ سن الرشد فتعاقبه بدافع حنان الأمومة، وباعتبارها أكثر الناس حرصًا على مصلحته.
كما يمكن إيجاد تماثل بنيوى – ذو دلالة- على مستوى الأحداث بين زواج "أميرة كامل" من "عايش" وبين الرغبة الأمريكية فى إقامة شهر عسل دائم مع مصر، لدورها القيادى فى المنطقة، بتوجيهات اسرائيلية يمثلها فى نص "ماما أمريكا"، "شومان الشفاط".
"علام: المؤامرة الكبرى تتكرر – المغول دخلوا مصر يوم ما أيبك دخل على شجرة الدر".
"ويحذر النص من أشهر العسل العربى الأمريكى الذى استيقظ منه عايش ليجد أمامه (ماما أمريكا) أو "أميرة كامل" وقد ارتدت الزى العسكرى وسط حراسها، وتمسك بالكرباج لتأمره بما يجب عمله."
وقد أبرز النص من خلال الحدث السابق، وما تلاه من أحداث الخطط الأمريكية لفرض الهيمنة والتبعية على دول المنطقة العربية، واستخدام القوة بمظاهرها المختلفة منها التلويح بالعقاب.
"أميرة: حاترتب السرير يا عايش.
عايش: (يلقى بغطاء السرير على الأرض) مش حارتب السرير.
أميرة: إيه ده إنت بتعاندنى؟
عايش: أيوه بعاندك (يدق جرس التليفون) روحى ردى على التليفون.. كل يوم من ده إيه رأيك؟
أميرة: ألو.. أيوة أنا أميرة فيه إيه؟.. يعنى إيه الراجل ده مش عايز يبيع؟.. خلاص ما أنت عارف اللى بيعند معايا بيحصله إيه؟ مدام عند.. اقتلوه... أيوه وارموا جثته فى النيل ولا فى أى خرابة."
بعدها ينتفض "عايش" فى حركة سريعة، ويقوم بترتيب السرير فى همة ونشاط. كما يتعرض النص لمظهر آخر من مظاهر فرض الهيمنة متمثلا فى المعونات الأمريكية المذلة المشروطة، التى تغدق بها أمريكا على مصر، والتى تمثل فى شكلها الخارجى مساندة محمودة، ولكنها فى داخلها، تدخلا سافرًا فى شئون مصر، حيث تستغلها أمريكا كعقاب لمصر على مواقفها العدائية سواء فى سياستها الداخلية أو الخارجية، مما يولد الشعور بالذل والمهانة نتيجة الحط من كرامة المصرى، ووضعه فى مقام المتسول.
"أميرة: إمسك أدى شيك بأربعين ألف جنية يسدد الرهنية.. وأعملى عقد إيجار نقول تلات سنين.
عايش: أيوة.. بس ده مبلغ كبير.. أنا مش مصدق.
أميرة: مش عايزاك تنهزم وتضيع فى الرجلين وأنا لازم أبقى جنبك.
عايش: أنا فعلا أنا وولادى كنا مستنيين معجزة وإنتى حققتيها لى."
كما تطرق النص إلى محاولات أمريكا فرض التبعية والهيمنة من خلال طمس الهوية، ومحاولات استلاب الأرض والعقل. وهو ما عبر عنه "ألبرت بفريدج" Albert Beveridge الذى سرعان ما انتخب لعضوية مجلس الشيوخ حين قال "إن الأمريكيين هم الجنس الغازى، وعلينا أن نمتثل لما تمليه علينا دماؤنا.. فنحتل أسواقًا جديدة وأراضى جديدة أيضًا إذا لزم الأمر لأن غاية الله النهائية، تتمثل فى حتمية اختفاء الحضارات المنهارة والأجناس الضعيفة أمام حضارة أمريكا العظمى."( ) فأميرة كامل، ليست سوى صورة لممارسات القطب الأوحد بهويته ومرجعيته، محاولا فرض استراتيجيته التى تقوم على محو الآخر وإلغائه، ومحاربة مقوماته الحضارية وطمسها، ليحيل العالم إلى دائرة مغلقة، ممكن من خلالها استلاب العقل الإنسانى، أو تفكيك بنيته الثقافية، وأنظمته الفكرية لصالح حضارة واحدة هى حضارة الأقوى، فالجميع يعلم أن الإنسان العربى صلب التكوين النفسى لأنه محمل بإرث استعمارى عمره آلاف السنين، وله ذكريات عن أزمان المجد، والعراقة الحقيقية، وعن حضاراته التى قدمت للإنسانية الكثير، ولاشك أن هذه الخلفية التاريخية والذاكرة الجمعية للعربى تملأ وعى المستعمر بالقلق من بعث جديد يعيد للأمة العربية أمجادها الغابرة.
وقد تأكد هذا المعنى فى النص من خلال التحول فى العلامات المكانية من منزل عائلة "عايش" ذو الملامح العربية الأصيلة إلى مقر مؤسسة حماية حقوق الحمير الأمريكية، ذات الملامح العصرية الغربية.
كما يجب ألا نغفل دلالة اسم المؤسسة "والتى تولدت عن حقيقة اجتماعية تتمثل "فى رغبة أمريكا فى أن تحول العالم إلى قطيع يسير خلف من يحمل القمح (البرسيم)".( )
"أميرة: المؤسسة فى أمريكا وضعت القوانين والتشريعات المنظمة لحقوق الحمير فى العالم كله."
كما يقدم النص شخصية "علام" مدرس التاريخ الغائب عن الوعى بفعل المخدرات، كنموذج مماثل لضحية المؤامرات الأمريكية، ومحاولاتها المستمرة لتغييب العقل العربى، وضرورة فصله عن قضيته الأساسية المتعلقة بالأرض والحريات، فعندما يعيش الإنسان فى ظل قهر أعمى، وديكتاتورية هوجاء، يصبح حتى عقله معتقلاً سجينًا لبطش هذا القهر، وهذه الديكتاتورية، ويوضع تحت الوصايا، حيث تملى عليه آراؤه، وأفكاره.
"أميرة: عاملى لى مناحة على الأندلس اللى راحت.
علام: حضرتك قريتى الكتاب كويس؟!
أميرة: طبعا قريته وفهمته أنا مش جاهلة يا علام.. أنت عامل علاقة بين الأندلس والنظام العالمى الجديد.... الكلام ده أنا مش حاطبعه.. أنا عايزاك تبحث فى معضلات تاريخية تهم الناس.
علام: زى إيه؟
أميرة: عندك مثلا.. فيه خلاف تاريخى عايزاك تحسمه.. هل باب القلعة لماجم يركبوه... ركبوه عدل ولا مقلوب؟."
ويتضمن النص خطابًا مماثلا للحالة العربية الراهنة، يتأملها ويعيد النظر فى عوامل الضعف فيها، فنحن أمة مختطفة عاجزة مكلومة فى تاريخها وشرفها وكرامتها، وصلت إلى حالة من التداعى والهوان فى ظل حالة الفرقة والتشرذم العربى، وغياب القومية العربية، وقد تجسدت هذه المعانى من خلال التفسخ الاجتماعى بين أفراد عائلة "منافع" وخلافاتهم المستمرة، وقد تم تأكيد هذه الدلالة من خلال علامة مادية تمثلت فى حطام (العربية)، وقد وضعه الأخوة فى منتصف المسرح وهم فى حالة بكاء، بعد إحتراقها وقد ارتبطت تلك العلامة المرئية بعلامة سمعية لتأكيد الدلالة التعبيرية، وذلك من خلال تعليق "علام" الساخر على ضياع القومية العربية.
"علام: وإيه يعنى العربية ضاعت (يخرج مهزوما) ما القومية قبلها ضاعت والأندلس ضاعت.. 
والقدس ضاعت.. كله ضاع."
كما يعطى النص أبعادًا لقضية تبدو لأول وهلة بسيطة إلا أن أعماقها ورموزها تمتد لمشكلة فلسطين، وحق العرب الفلسطيني فى أراضيهم المحتلة، حيث تمثل شخصية "شومان" الطرف الإسرائيلى الذى اغتصب أراضى عائلة "منافع"، ويحيلنا مشهد تسوية النزاع بينه وبين الأشقاء الستة حول الأرض، لقضية تقسيم فلسطين.
"علام: إحنا مش عايزين غير كلمة واحدة وبعدين نتناقش... الأرض دى بتاعتك؟
شومان: إحنا كدة دخلنا فى طريق مسدود... أنا عاوز سنتين تلاتة علشان أفكر فى سؤالك ده.
عبود: يبقى أنت بقى مش عاوز تحلها ودى... بينا يا جماعة.
شومان: طب علشان مايبقاش أنا اللى معرقبها... حاديكم تلاتين فدان ليكم كلكم وده آخر كلام.
عفاف: مش قتلتكم ده كلب ولا يسوى... بينا يا جماعة.
عاشور: استنوا بس لما نشوف عاوز يوصل لأيه؟ كمل.
شومان: اقتنعتم...... بالعشرين فدان؟
عاشور: لا يمكن... أنت قلت من شوية بعضمة لسانك تلاتين فدان...
عبود: جرى إيه يا عاشور... أنت أتجننت؟ بتأمن له على التلاتين فدان؟!
شومان: طب استنوا حاديكم خمسين فدان ليكم كلكم... عشرة فى الأول وبعدين نقعد نماطل فى الأربعين."
إن التماثل بين البنيتين الإبداعية والاجتماعية هنا تتجسد فى المحتوى الفكرى والدلالى والذى يشكل نسقًا اجتماعيًا يتمثل فى المماطلة الإسرائيلية بشأن استرجاع الأراضي الفلسطينية المغتصبة ومشروع تقسيم فلسطين، الذى بدأ مع "تصويت الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة عام 1947، على القرار رقم 181 الذى طرح خطة لتقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والثانية فلسطينية، أما القدس فتصبح منطقة دولية، وإذا كان هذا المشروع يتلاءم ومنظورهم الخاص، فقد رحب به اليهود فى حين رفضه الفلسطينيون رفضًا باتًا." 
كما يحيلنا النص إلى "الفكرة العالمية التى جرى التبجح بها كثيرًا حول الحرية والعدالة والديمقراطية، والتى تمارسها أمريكا بطرائق مختلفة تبعدها عن مفهومها الحقيقى، لتصب فى مصلحتها الذاتية، وقد تولدت عن التعريف الخاطئ لهذه القيم، بنية إبداعية فى النص تمثلت فى المشهد الأخير الذى يتحطم فيه تمثال الحرية، فى دلالة تعبيرية على انعدام الحرية فى معاقلها، حيث يصبح تحطيم الجزء الأعلى من تمثال الحرية، معادلا تشكيليًا لفكرة الحرية المنقوصة المغلفة بالأفكار المضللة عن البراءة والصلاح والفضيلة والتى تولد نوعا من الإحباط واليأس، وشعورًا بالكره والعداء يقود فى النهاية إلى الخاتمة المحتومة المتمثلة فى استخدام العنف والإرهاب. 
ويمكن إجمال حالات التماثل بين البنية الداخلية للنص، وبنية المجتمع الخارجية، من خلال الجدول الآتي:


بنية النص الداخلية ومقارنتها ببنية المجتمع الخارجية
التابع الحكام العرب، الذين أرهقتهم الخلافات، وطمعتهم المعونات الأمريكية، فباتوا فى مستنقع الذل والهوان، بأن أعطوا لأمريكا الضوء الأخضر للتدخل فى شئونهم، وفرض هيمنتها عليهم، نتيجة ضعفهم، وتفرقهم، وقلة حيلتهم فى حل مشاكلهم، وسعى بعضهم إلى تحقيق مكتسبات ذاتية على حساب القومية العربية.
المتبوع أمريكا، القطب الأوحد المهيمن على العالم فى وقتنا الرهن، باعتبارها الإمبراطورية الملهمة التى توسمت فى نفسها أهلية الدور العالمى، وقيادة حركة التقدم برفع لواء الحرية وقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
الاستلاب المطامع الأمريكية الممتدة المشمولة بشهوة الاستحواذ وآليات التسلط، والمتمثلة فى محورين من محاور الاستلاب: استلاب الأرض، واستلاب العقل.
• استلاب الأرض: بالتدخل العسكرى بحجة تدعيم الديمقراطية، وحماية الحريات ومحاربة النظم السياسة الديكتاتورية فى المنطقة العربية، أو تدعيمها لإسرائيل ومساعدتها فى اغتصاب الأراضى الفلسطينية.
• استلاب العقل: وهو أنكى من استلاب الأرض لأنه ربما يجعله مبررًا، وحقًا مشروعًا، ويتم عن طريق طمس هوية الآخر، وفرض الثقافة الأمريكية بوصفها ثورة تصحيحية لمسارات الفكر وتيارات الوعى.
ونتيجة التناقض بين ثنائية التابع والمتبوع فى النص يتم إزاحة الوعى الفعلى (السلبى) لعايش وأخوته ليتولد وعي جديد (الوعى الممكن) متمثلا فى إرادة المواجهة، بعد سقوط الأقنعة، وكشف الحقائق، ويقدم النص ذلك الوعى الممكن كرؤية مستقبلية للعالم، فالعرب قد فهموا اللعبة، فهم يعرفون من يدعم إسرائيل بالسلاح، ومن يكسر الإرادات وينهب الموارد ويهدد بالتدخل ويلوح بالعقوبات وتبقى إرادة المواجهة، هذه الإرادة المتذبذبة المرتعشة، التى هى فى الواقع صورة من صور التخلف والتمزق فى المجتمع العربى المعاصر، ويقدمها النص كحل مثالى مقترن بلم الشمل، ونبذ الخلافات والوصول إلى وفاق عربى، للتصدى للغطرسة الأمريكية، وتهديداتها لاستقلال العرب وحريتهم.
لقد قدم الباحث فى هذا الفصل صورة للشعارات المزيفة التى ترفعها أمريكا حول الحرية والديمقراطية، وذلك من خلال نص "ماما أمريكا" للكاتب "مهدى يوسف" الذى كشف القناع عن الوجه الحقيقى لأمريكا فى تعاملها مع العرب، بوصفهم تابع لها، وأوضح فشل أمريكا فى إعلاء شأن الحرية وتدعيمها فى المحيط العربى، بما يتناقض مع ادعاءاتها الزائفة. 
"وفى هذا النص يبرز دور المسرح ليس فى عكس الواقع المعيش فحسب، ولكن فى رؤيته المستقبلية لما قد يصادفنا من أزمات، فقد دق النص ناقوس خطر مبكر، وأنذر بعاقبة تجاوزات السياسة الأمريكية، وقد صدق حدس الكاتب الذى جاء متماثلا مع حادث نسف برجى التجارة العالمية فى 11 سبتمبر عام 2001. 

السبت، 11 أغسطس 2012

خطوات المنهج البنيوى التوليدى فى النقد الأدبى.


د/ابراهيم حجاج مدرس بقسم الدراسات المسرحية كلية الآداب جامعة الاسكندرية.

جمع منهج البنيوية التوليدية بين التحليل الداخلى للنص الأدبى (المنهج البنيوى) ودراسة العوامل المادية التاريخية والاجتماعية، وتأثيرها على النتاج الأدبى (النقد الماركسى)، حيث رفض "جولدمان" (مؤسس المنهج) المنظور الاجتماعى البحت- المنظور الماركسى- ورفض أيضًا أى دراسة تتجاهل البعد الاجتماعى- المنظور البنائى- لبعدها عن الواقع، ومن ثم زاوج "جولدمان" بين البعد الاجتماعى، وبناء العمل الأدبى فى الوقت نفسه. 


وتتحدد خطوات منهج "جولدمان" فى النقد البنيوى التوليدى فى النقاط الآتية:
1- تناول النص الأدبى من الداخل بطريقة شمولية وذلك بوصف بنياته الصغرى والكبرى ثم تحليل العناصر الدلالية والبلاغية لكل منها، ومدى ارتباطها وتناغمها، دون أن نضيف شيئًا من تأويلنا ليس له علاقة بالنص، إذ يجب الالتزام بمضامين النص مستقلا عن أية عوامل خارجية. وبعد ذلك نحدد البنية الدالة وهى "مقولة ذهنية وفلسفية تستخلص من كلية العمل الأدبى عبر توارد تيماته المتواترة. ويشكل كل هذا عملية الفهم.
2- نقيم عملية تماثل بين البنية الابداعية والبنية الاجتماعية، فبعد أن نحدد البنية الأدبية الكلية الدالة نربطها بواقع اجتماعى خارجى، ليس بوصفها رؤية ذاتية للكاتب، وإنما رؤية للعالم من خلال جماعة اجتماعية محددة ينتمى إليها الكاتب فكريًا، ثم نوضح كيفية تحول الوعى الفعلى لهذه المجموعة الاجتماعية- التى قد يمثلها بطل النص أو مجموعة شخصيات- إلى وعى ممكن، يحث المتلقى على تغيير واقعه المتأزم، بما يسمى لدى "جولدمان" بالتفسير، وذلك بتحديد العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية، التى ولدت هذه الرؤية كظاهرة فكرية عبر عنها العمل الأدبى فى زمان ومكان محددين.
ونخلص مما سبق إلى أن "جولدمان" حاول بهذا الاتجاه الجديد الجمع بين الاتجاه الماركسى والاتجاه البنائى فى آن واحد أى بين الشكل والمضمون، فى محاولة للتوفيق بين المضمون الاجتماعى للعمل الأدبى من ناحية، والبناء الداخلى للعمل من ناحية أخرى.

منهج البنيوية التوليدية فى النقد الأدبى.


د/ابراهيم حجاج مدرس بقسم الدراسات المسرحية - كلية الآداب- جامعة الاسكندرية.
قد وجهت إلى المنهج البنيوى بعض الانتقادات والاعتراضات من قبل النقاد والمشتغلين بالأدب، "حيث عابوا عليه خلعه للأعمال الأدبية من جذورها والاهتمام بتحليل العمل الفنى تحليلاً داخليًا فحسب.
ومن هنا كان لابد من ظهور اتجاه جديد يجمع فى تفسيره للعمل الأدبى بين التحليل الداخلى للنص الأدبى (المنهج البنيوى)، وبين دراسة العوامل المادية التاريخية والاجتماعية وتأثيرها على النتاج الأدبى وعرف هذا المنهج الجديد بالبنيوية التوليدية.

ينسب هذا المنهج إلى الناقد والمفكر الفرنسى "لوسيان جولدمان" L.Goldman (1913- 1970)، "وهو منهج يقدم مدخلا داخليًا وخارجيًا لدارسة العمل الأدبى، ويقوم على مراوحة مستمرة بين داخل العمل وخارجه، إنه منهج لا يفهم العمل الأدبى إلا باعتباره نسقًا من العلاقات المتلاحمة داخليا، ولكنه لا يفهم هذا النسق كتجريد مطلق، ولكنه عندما يتعمق للكشف عن وظيفة هذا التلاحم الداخلى يضطر للعودة إلى الخارج، حيث الطبقة، أو المجموعة الاجتماعية للأديب المنتج، فلا يتوقف عندها، إلا لكى يفهم رؤيتها، باعتبارها بنية أشمل ولدت بنية العمل الأدبى. 
إن منهج البنيوية التوليدية، يجمع فى تفسيره للعمل الأدبى بين المناهج السوسيولوجية التقليدية، التى تهتم بدراسة مضمون العمل الأدبى، وتربطه بواقع اجتماعى ساهم فى إفرازه وبين المنهج البنيوى الذى يهتم بدارسة الشكل من خلال تحليل بنبة العمل الأدبى، والكشف عن مدى التجانس بين عناصره الداخلية، بعيدا عن المؤثرات الاجتماعية والتاريخية الخارجية.
وقد تناول "جولدمان" النص الأدبى بوصفه "بنية إبداعية متولدة عن بنية اجتماعية، وذلك من منطلق التسليم بأن كل أنواع الإبداع الثقافى تجسيد لرؤى عالم متولدة عن وضع اجتماعى محدد لطبقة أو مجموعة بعينها، والواقع أن مبدأ التولد مبدأ أساسى حاسم فى منهج جولدمان كله
ويؤكد "جولدمان" أنه يجب قبل بحث العلاقة القائمة بين أى عمل أدبى والطبقات الاجتماعية القائمة أثناء كتابة العمل، يجب فهم العمل الأدبى نفسه، وفهم دلالاته الخاصة، ثم الحكم عليه من الجانب الفنى باعتباره عالمًا ملموسًا، أبدعه الكاتب، ويتحدث إلينا من خلاله. ويشير "جولدمان" إلى "أن مهمة الناقد هى استخلاص عناصر الدلالة الموضوعية للعمل الأدبى، وهى دلالة يستطيع فيما بعد أن يحاول إقامة العلاقة بينهما وبين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعصر.
وعلى ذلك يتأسس منهج البنيوية التوليدية عبر عمليتين مترابطتين يطلق عليهما "جولدمان": الفهم والتفسير.
1- عملية الفهم:
يرى "لوسيان جولدمان" أن عملية الفهم "مشكلة تتصل بالتلاحم الداخلى للنص، وهو مشكلة لن تحل إلا بافتراض أن النص- كل النص وليس أى شئ سواه- هو ما يجب أن يؤخذ حرفيًا، وأن على المرء أن يبحث فى داخله عن بنية دالة شاملة.
ومن هنا يتضح أن الفهم عملية خاصة بالنص الأدبى بعيدًا عن أية مؤثرات خارجية (المجتمع- شخصية المبدع)، ويتم فيها دراسة بنية العمل الأدبى- بوصفها نسقًا موجودًا خارج ذات الكاتب وخارج ذات الناقد- وتحليل العناصر المكونة له وأوجه الارتباط الداخلى بينها، للوقوف على مدى تناغمها، وقياس الكفاءة اللغوية والتخيلية لها.
ومن هذه الزاوية تعالج البنيوية التوليدية مشكلتين مهمتين:
أولهما: مشكلة العلاقة بين تأويل الناقد والدلالة الموضوعية للنص الأدبى، بوصفها الغاية الأساسية التى يسعى إليها الناقد، وفى هذا الصدد يؤكد "جولدمان" على ضرورة عدم تجاوز النص إلى خارجه باقتحام تأويل خارجى لا يقع فى دائرة فهم النص.
ويضرب "جولدمان" مثلا بمسرحية "أوديب" للكاتب اليونانى "سوفوكليس" Sophocles (496-406ق.م) فيقول "يجب على الناقد أن لا يضيف شيئًا إلى "أوديب" عند "سوفوكليس"، فيفترض مثلا أن "أوديب" كان ينطوى على رغبة لا واعية فى الزواج من "جوكاستا" (والدته)، ويتطرق من خلال هذا الفرض إلى قضية سفاح المحارم، وهى فكرة ليست مقررة فى أى مكان من نص "أوديب"
ثانيهما: مشكلة العلاقة بين المقاصد الواعية للكاتب والدلالة الموضوعية للنص الأدبى.
ويقصد بالمقاصد الواعية للكاتب أفكاره الفلسفية أو السياسية أو الأدبية.
ويرى "جولدمان" أنه على الناقد- أثناء فهمه للنص- ألا يتطرف فيلغى المقاصد الواعية، ولا يتطرف فيبالغ فى تأكيد هذه العناصر، وإنما يعالجها من منظور البنيوية التوليدية التى تلح على الدلالة الموضوعية للعمل الأدبى من حيث كونها بنية معبرة عن رؤية العالم وليس على رؤية فردية لمبدعه.
ومن هذا المنظور يقول "جولدمان" إن العمل الأدبى له وظيفة دالة عند صاحبه بالتأكيد، ولكن هذه الوظيفة لا تتصل اتصالا مباشرا بالبنية التى تحكم العمل، فما أكثر ما تتعارض معها، والحل الأمثل لتجاوز خطر هذا التعارض، هو عدم الإلغاء التام لمقاصد الواعية للكاتب، والتعامل معها فى الوقت نفسه، بوصفها جانبًا من جوانب كثيرة يمكن أن تساعد فى فهم النص
ومن هنا يمكن أن تفيد المقاصد الواعية للكاتب الناقد بشرط أن يبنى فهمه معتمدًا على النص الأدبى وحده من غير أن يمنح المقاصد الواعية أية قيمة متميزة.
ويضيف "جولدمان" "أنه لو عكس الناقد الأمر وتجاهل المقاصد الواعية تمامًا، فإنه قد يحرم نفسه من معطيات تجريبية، يمكن أن تعينه فى الفهم ولو بطرائق غير مباشرة، ولو تحيز الناقد لهذه المقاصد فإنه يحيل النقد الأدبى إلى نوع من التراجم والسير، وتتجلى خطورة الوضع الأخير فى فرض مبدأ خارجى مغاير للعمل الأدبى، لن ينتج عن فرضه سوى تدمير التلاحم الداخلى لبنية العمل الأدبى نفسها". 
2- عملية التفسير (الشرح):
يرى "جولدمان" أن عملية التفسير "مشكلة تتصل بالبحث عن ذات جماعية، وذلك بالنظر إلى حقيقة خارجة عن العمل لها علاقة ببنية هذا العمل، وغالبًا ما تكون هذه العلاقة علاقة تماثل
أى أن التفسير يرتبط بما هو خارج حدود النص لينفتح على المجتمع، وينظر للبنية الأدبية باعتبارها مولدة عن بنية اجتماعية أوسع.
ويؤكد "جولدمان" على أن "الفهم والتفسير ليسا سوى عمليتين مترابطتين ومتكاملتين 
ففهم العمل الأدبى هو وصف بنيته الداخلية، وعزل معناه أما تفسير العمل الأدبى فهو توضيح تولده من بنية اجتماعية خارجية.
العلاقة بين بنية الوعى الخاص بفئة اجتماعية ما، والبنية التى تنظم كون العمل الإبداعى، "تكون متماثلة تماثلاً دقيقًا فى بعض الأحيان، إلا أنها غالبًا ما تشكل أيضًا علاقة ذات دلالة، هكذا يمكن لكون تخيلى، غريب عن العالم التجريبى تمامًا فى الظاهر، كخرافات الجن مثلاً أن يكون مماثلاً تمامًا فى بنيته لتجربة فئة اجتماعية معينة، أو على الأقل مرتبطًا بها بطريقة ذات دلالة".
ويرى "جابر عصفور" أن الحركة ما بين الفهم والتفسير لا تسير فى اتجاه واحد وإنما هى "حركة متعاكسة"، مكوكية، مثلما هى دائرية، فنحن ننطلق من الفهم إلى التفسير، ثم نعدل من التفسير فى ضوء الفهم، وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى أدق إدراك لبنية العمل الأدبى"
3- الوعى الفعلى والوعى الممكن:
يعرف "جولدمان" الوعى على أنه "مظهر مؤقت لكل سلوك بشرى يستتبع تقسيم العمل، وهو يدقق فى هذا التعريف ذاهبا إلى أن كلمة مظهر تتضمن دائما عنصرًا معرفيًا مما يجعلنا نفترض فى كل واقعة وعى، أى وجود ذات عارفة وموضوعًا للمعرفة".
وينص "جولدمان" على أن وقائع الوعى تأخذ شكلين متمايزين، رغم ما بينهما من تداخل وتجاوب.
• الوعى الفعلى: وينحصر فى أنه مجرد وعى سلبى بالحاضر، وهو محصلة لتجارب سبق ظهورها فى الماضى.
• الوعى الممكن: وينشأ عن الوعى الفعلى، ولكنه يتجاوزه إلى الوعى بالمستقبل، إذ إن الوعى بالحاضر يولد وعيًا بإمكانية تغييره وتطويره
فالوعى الفعلى من وجهه نظر "جولدمان" هو وعى آنى لحظى من الممكن أن يعى مشاكله التى يعيشها، لكنه لا يملك لنفسه حلولا لمواجهتها والعمل على تجاوزها، بينما الوعى الممكن هو ما تطمح إليه طبقة اجتماعية بعد تعرضها لضغوطات مختلفة، وهو مجرد إمكانية ترتبط بالمستقبل، فهو وعى ايديولوجى مستقبلى يتجاوز الوعى الفعلى المتكيف مع الواقع، واضعًا تصورًا للتغير والتطوير. 
ويرى الباحث أن المرادف الأمثل لمصطلحى "الوعى الفعلى" و"الوعى الممكن" هو "الوعى الكامن" والوعى المنطلق أو المتفجر"، ويعنى الأول، الوعى الكامن داخل الشخصية أو المجموعة الاجتماعية بسلبيات الواقع، وعدم القدرة على المواجهة والتغيير لوجود معوقات اجتماعية أو سياسية. واستنادًا إلى مقولة "أن الضغط يولد الانفجار" فإن الضغوط السياسية والاجتماعية على الفرد أو الجماعة قد تؤدى إلى خروج الوعى من كمونه وانطلاقه إلى آفاق التمرد على الواقع وتغيير الحاضر ليتحول إلى وعى متفجر. 
ويصبح الوعى الممكن فى كلية العمل الأدبى – من وجهة نظر "جولدمان"- رؤية جديدة للعالم وهو ما يؤكده "جابر عصفور" بقوله "إذا كان الوعى الفعلى يرتبط بالمشكلات التى تعانيها الطبقة أو المجموعة الاجتماعية فإن الوعى الممكن يرتبط بالحلول التى تطرحها المجموعة الاجتماعية لتنفى مشكلاتها وتصل إلى درجة من التوازن، وعندما يصل الوعى الممكن إلى درجة من التلاحم الداخلى تصنع كلية متجانسة من التصورات، وعندما تزداد درجة التلاحم شمولاً لصنع بنية أوسع من التصورات الاجتماعية فإن الوعى الممكن يصبح رؤية للعالم".
4- رؤية العالم:
إن الانتقال من داخل بنية العمل إلى المجتمع لا يتم بشكل مباشر، وإنما عن طريق وسيط له وجود بين الاثنين يتمثل فى رؤية العالم.
ويؤكد "جولدمان" على "أن الأدب من حيث أنه تعبير عن رؤية العالم، فإن هذه الرؤية ليست واقعة فردية بل واقعة اجتماعية تنتمى إلى جماعة أو طبقة ما.
ويرى الباحث أن مصطلح رؤية العالم هو أكثر المصطلحات دقة للتعبير عن العلاقة بين الأدب والمجتمع، حيث رفض "جولدمان" الفكرة التى ترى فى النصوص الأدبية إبداعات لعبقرية فردية (الكاتب)، وذهب إلى أن هذه النصوص تقوم على أبنية عقلية تتجاوز الفرد وتنتمى إلى جماعات أو طبقات اجتماعية محددة، ينتمى إليها الكاتب فكريًا. 
ويرى "جميل حمداوى أن رؤية العالم هى باختصار "تلك الفلسفة التى تنظر بها طبقة اجتماعية إلى العالم والوجود والإنسان والقيم، وتكون مخالفة بالطبع لفلسفة أو رؤية طبقة اجتماعية أخرى، فمثلا رؤية الطبقة البرجوازية للعالم يختلف عن رؤية الطبقة البروليتارية، رؤية شعراء التيار الإسلامى مختلفة جذريًا عن رؤية شعراء التيار الاشتراكى فى أدبنا العربى المعاصر"
وهكذا نرى الاختلاف الكبير الذى يفصل بين سوسيولوجيا المضامين (نظرية الانعكاس)، والسوسيولوجيا البنيوية، "فالأولى ترى فى المبدع انعكاسًا للوعى الجمعى أما الثانية فترى فيه على العكس أحد مقومات هذا الوعى، العنصر الذى يسمح لأعضاء الجماعة بوعى ما يفكرونه ويشعرون به، ومن ثم يعملون على تغيير واقعهم المحيط عند تحول الوعى الفعلى إلى وعى ممكن من خلال النظرة الكلية لوضعهم الاجتماعى فى فترة تاريخية محددة.
نموذج تطبيقى لرؤية العالم عند "جولدمان" من خلال نصوص "راسين" Racine (1639- 1699):
قدم "جولدمان" فى كتابة "الإله الخفى" (1956) نموذجا توضيحيا لمنهجه النقدى وفيه "يهتم "جولدمان" بمسألتين أساسيتين: ما هى رؤية العالم الكامنة فى مسرح راسين؟ وكيف يمكن شرح هذه الرؤية ككلية متسقة مرتبطة بجماعة اجتماعية معينة فى القرن السابع عشر
ولكى يجيب "جولدمان" على هذين التساؤلين، ويقدم نقدًا للعمل الأدبى يقوم على مستويين مختلفين، مستوى الموضوع الأدبى المدروس، ومستوى البنية الاجتماعية، المحيطة به فى آن واحد، تحرك فى كتابة "الإله الخفى" على النحو التالى:
"لقد تكشفت لجولدمان فى مسرحيات "راسين" بنية متكررة من المقولات (الله – الإنسان – العالم) تتغير فى مضمونها وعلاقاتها المتبادلة من مسرحية إلى أخرى، إلا أنها تكشف عن رؤية خاصة للعالم، هى رؤية بشر ضائعين فى عالم يخلو من القيمة، ومع أن هؤلاء البشر يتقبلون العالم باعتباره العالم الممكن الوحيد، وأن الله غائب عنه، فإنهم لا يكفون عن الوقوف ضد هذا العالم".
ويصل "جولدمان" – على مستوى التولد – بين هذه البنية الداخلية فى نصوص "راسين" وبين قضية اجتماعية خارجية لمجموعة اجتماعية محددة فى نفس الفترة التاريخية ألا وهى مشكلة طبقة "النبالة الشرعية".
"ففى مرحلة ازدهار الحكم المطلق فى فرنسا فى القرن السادس عشر، نظم الملك بيروقراطية تدعمه من المحامين البرجوازيين، وجعل منهم نبلاء بمرسوم ملكى، مما مكنهم من تشكيل ما سمى بالنبالة الشرعية، فى مقابل الأرستقراطية الإقطاعية القديمة، ولما كانت هذه النبالة الشرعية تدين فى وجودها الاجتماعى إلى الملك فقد أصبحت عونًا له فى صراعه ضد هذه الأرستقراطية، ولكن حدث فى أوائل القرن السابع عشر، أن شعر "لويس الثالث عشر" أن النبالة الشرعية لم تعد أداة خاضعة لإرادته تمامًا، فخلق بيروقراطية أخرى منافسة لها ومنحها حقوق وامتيازات البيروقراطية الأولى، وكان من الطبيعى أن تجد النبالة الشرعية نفسها فى موقف صعب، لقد كان أبناؤها يدينون بوجودهم إلى الملك الذى انقلب عليهم، وتخلى عنهم لأسباب غير معروفة. ولما كان هؤلاء بلا أحلاف طبقيين فقد ظلوا عاجزين فى مواجهة تصاعد الحكم المطلق ولم يعد أمامهم من خيار سوى أن يشهدوا نهايتهم على يد من خلقهم 
ويكشف كتاب "جولدمان" عن وجود علاقات تصل بين المجموعة الاجتماعية المسماة بـ "نبلاء الرداء" أو "النبالة الشرعية"، والحركة الدينية المسماة بالجنسينية.
والجنسينية "مذهب دينى خاص بإتباع جنسين (1585- 1638) أسقف (إيريس) الذى آمن بالجبر وأنكر الإرادة الحرة للإنسان
وعندما حلل "جولدمان" التعاليم النظرية لأقطاب هذه الحركة التى ظهرت بين عامى 1637- 1638 وجد أن هناك ثلاث مقولات أساسية تشكل بنية الفكرة لديهم حيث "أكد الجنسينيون أن الله تخلى عن العالم وسحب منه نعمة الهداية والخلاص. ومادامت نعمة الخلاص منسحبة من العالم، فليس فى العالم نفسه سوى الشر القاهر، الذى يجر كل أفعال الإنسان إلى شراك المعصية المهلكة. ومادام العالم على هذا النحو، ومادامت نعمة الخلاص غير متاحة فيه، فلا مفر للإنسان من مواجهة المقدور عليه فى هذا العالم، لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا فى مواجهته 
ويكشف "جولدمان"، على هذا النحو، عن تماثل بنيوى دقيق بين المأزق الاجتماعى للنبالة الشرعية والتعاليم الدينية للجنسينية ويتضح هذا التماثل على النحو التالى:
المجال الاجتماعى المجال الدينى
1- خلق الملك النبالة الشرعية لكنه تخلى عنها لأسباب غير معروفة خلق الله العالم لكنه تخلى عنه لأسباب غير معروفة
2- فأصبحت الظروف الاجتماعية مدمرة فأصبح العالم شرا كاملا
3- فلا قدرة للنبالة على مواجهة المقدور الملكى فلا قبل للإنسان على الخلاص فى العالم
لقد تمكن "جولدمان" من إيجاد العلاقة البنيوية بين نصوص "راسين" ورؤية العالم من خلال المجال الاجتماعى طبقة (النبالة الشرعية) والمجال الدينى (مذهب الجنسينية)، حيث أن كلا منهم يتجاوب بنيويًا مع الآخر، على أساس المقولات المتكررة (الله- الإنسان- العالم)، وبذلك كشف "جولدمان" عن الكيفية التى يتحرك بها من البنية الداخلية للعمل الأدبى ليقارنها ببنية تاريخية لمجموعة اجتماعية فى فترة تاريخية محددة.
ولم تقف حدود الدراسة عند "جولدمان" عن هذا الحد بل عاد إلى النصوص ليناقش أدق ما فيه، وعلاقات التكوين فى الأبنية الصغرى، والعلاقات الوظيفية التى تصل ما بين الجميع، وخلاصة القول أن "جولدمان" فى تطبيقه هذا يرى أن السبيل الوحيد لدراسة العمل الأدبى، هو أن نبدأ بالعمل لكى ننطلق منه إلى التاريخ، ثم نعود من التاريخ إلى العمل الأدبى فى حركة أشبه بالمكوك"
البنيوية التوليدية فى العالم العربى:
تعددت الصياغات العربية فى ترجمة المصطلح الفرنسى الأصل Structuralisme Gênetivue الذى يشير إلى المنهج الذى صاغه "جولدمان" فظهرت اجتهادات عديدة أطلقت عليه مسمى "البنيوية التكوينية، البنيوية التركيبية، الهيكلة الحركية، ولكن الباحث يتفق مع "جابر عصفور" فى الأخذ بمصطلح "البنيوية التوليدية" فى مقابل الاجتهادات الأخرى فى الترجمة "حيث هو منهج يتناول النص الأدبى بوصفه بنية إبداعية متولدة عن بنية اجتماعية والواقع أن مبدأ التولد مبدأ أساسى وحاسم فى منهج جولدمان كله".
ويمكن القول بأن البنيوية التوليدية من أكثر المناهج النقدية الغربية انتشارًا فى عالمنا العربى بصورة لم تتح للفرع الأخر من البنيوية وأقصد به "البنيوية الشكلية"، وسر هذا الانتشار يعود إلى "هيمنة الاتجاهات الماركسية تحديدًا فى أكثر البيئات النقدية العربية، فحين تأزمت تلك الاتجاهات وجد بعض النقاد العرب مخرجًا مؤاتيًا فى شكل نقدى يجمع بين تطورات النقد الغربى الحديث، ولاسيما ما نزع منه نحو العلمية، وبين الأسس الماركسية التى قامت عليها البنيوية التكوينية فى الغرب"( ) 
وهناك دراسات تطبيقية كثيرة قدمها بعض نقاد الأدب العربى، استخدم فيها مبادئ البنيوية التوليدية، فى محاولة لالتقاط العلاقة الوثيقة ما بين العمل الأدبى والتيار الاجتماعى، ومدى قدرتها على بلورة رؤية العالم، منها "الدراسة التى قدمها الشاعر والناقد المغربى "محمد بنيس"، وقد حاول فيها الربط بين الإبداع الشعرى المغربى المعاصر والظواهر السوسيولوجية فى المغرب العربى على وجه التحديد 
وهناك دراسة أخرى لعالم اجتماع عربى، وليس ناقدًا أدبيًا "وهو التونسى الطاهر لبيب (رئيس جمعية علماء الاجتماع العرب)، وقد درس "الطاهر لبيب" رسالته للدكتوراه فى أوربا على يد "جولدمان"، وكان أستاذه المشرف، درس ظاهرة الغزل العذرى فى العصر الأموى من ناحية تعبيرها عن رؤية العالم لفئة اجتماعية وهم الشعراء العذريون، وحاول أن يقيم علاقة بين ظاهرة الغزل العذرى، بوصفها ظاهرة متميزة فى تاريخ الشعر العربى فى الفترة الأموية من ناحية، وطبيعة الأبنية الاجتماعية والاقتصادية لهؤلاء الشعراء من ناحية أخرى، ومدى نجاحها فى تقديم رؤية للعالم تعبر عن واقعهم الاجتماعى.
ومن النقاد العرب السائرين فى هذا الاتجاه المغربى "محمد برادة"، واللبنانية "يمنى العبد"، حيث صدر لهما ولغيرهما دراسات تحليلية عديدة منها دراسة "محمد برادة" وتنظير النقد العربى (1979م) ودراسة "يمنى العبد" فى معرفة النص (1982م).

الاتجاه البنيوى فى النقد الأدبى.


بقلم د/ابراهيم حجاج مدرس بقسم الدراسات المسرحية كلية الآداب جامعة الاسكندرية.
قد رفض الكثيرون من النقاد، ورجال الأدب، قوانين التشابه السطحى الساذجة التى تحكم العلاقة بين العمل الأدبى والمجتمع بشكل يجعل من الأدب مرآة عاكسة لأوضاع المجتمع وقضاياه، دون الأخذ فى الاعتبار بنية هذا العمل التكوينية، وقيمه الجمالية، ومن هنا ظهرت على الساحة الأدبية اتجاهات جديدة تنادى بأهمية التحليل الداخلى للعمل الأدبى والإعلاء من قيمة الشكل على حساب المضمون، وأهم هذه الاتجاهات الاتجاه البنيوى. 

إن "كلمة بنية" فى لغتنا العربية، ترتد إلى الفعل الثلاثى (بنى، يبنى، بناء) . وقد يتبادر إلى الذهن أن كلمة "البنية" التى اشتق منها لفظ "البنيوية"، كلمة عادية مألوفة لنا تقترب فى فهمنا من معنى "الشكل"، أو "الصورة"، ولكن الكلمة قد تعنى أيضا الكيفية التى شيد على أساسها هذا البناء أو ذاك، وبالتالى يمكننا أن نتحدث عن "بنية المجتمع" أو "بينة الشخصية" أو "بنية اللغة"....إلخ، وهذا ما أكده العالم اللغوى "أندريه مارتينيه" Andre Martinet، فى تصوره للبنية،، ذلك التصور الذى يمكن أن يفيدنا فى تحديد البنية الأدبية وإبراز طابعها، فيقول "إذا كانت المعاجم خاصة "أوكسفورد" تنص على أن البنية هى كيفية بناء تركيب أو جهاز أو أية مجموعة فإن هذا لا يشير إلى عملية البناء نفسها، ولا إلى المواد التى تتكون منها ولكنه يتعلق بكيفية تجميع وتركيب وتآلف هذه المواد لتكوين الشئ وخلقه لأغراض ووظائف معينة وبذلك يثير مصطلح "البنية"، انطباعًا مرتبطًا بالتصميم الداخلى للأعمال الأدبية، بما يشمله من عناصر رئيسية، متضمنة الكثير من الرموز والدلالات، بحيث يتبع كل عنصر عنصرًا آخر، ويتطرق "ليفى شتراوس"- أحد رواد البنيوية الأثنروبولوجية – للعلاقة بين هذه العناصر الداخلية فى تعريفه لمفهوم البنية على أنها "نسق يتألف من عناصر من شأن أى تحول للواحد منها أن يحدث تحولاً فى باقى العناصر الأخرى"وهو المفهوم نفسه الذى جاء فى تعريف "صلاح فضل"، حيث عرف البنية على أنها "مجموعة متشابكة من العلاقات، وأن هذه العلاقات تتوقف فيها الأجزاء أو العناصر على بعضها البعض من ناحية، وعلى علاقتها بالكل من ناحية أخرى".
ولابد أن نميز بين البنية من ناحية والأسلوب من ناحية أخرى، فالبنية تتصل بتركيب النص، بينما يمس الأسلوب النسيج اللغوى المكتوب به فحسب، "ففى القصة مثلا سنرى أن البنية ترتبط بمستويات الحكاية المختلفة، ووظائف الزمن والشخصيات، وهيكل الأحداث، أما الأسلوب فيقتصر على تحليل الخلايا اللغوية التى تشف عن هذه المستويات، ومن هنا فإن المترجم قد يبتعد عن أسلوب النص الأصلى، لكنه لا يمكن أن يبتعد عن بنيته، ما دام لا يتخلى عن مهمته الأولى كمترجم".
وقد ظهرت البنيوية أو (البنائية كما يسميها بعض المفكرين)، كنظرية ومنهج فى الفكر الفرنسى المعاصر، وتعتبر أحد الاتجاهات الفكرية الأساسية التى سيطرت على ذلك الفكر لفترة من الزمن.
وهناك مدارس أدبية أسهمت إلى درجة كبيرة فى تشكيل الفكر البنيوى من أهمها مدرسة الشكليين الروس التى تبلورت فى روسيا فى عشرينيات القرن العشرين، وقد انطلق رواد هذه المدرسة من أمثال جاكبسون Jackobson (1896-1982)، وباختين Bakhtin (1895-1975) فى تحليلهم للعمل الأدبى من الداخل بالتركيز على اللغة بوصفها الوسيط بين الكاتب والمتلقى، ولكنهم لم يركزوا على اللغة العادية التى نستخدمها فى حياتنا اليومية، بل لغة الأدب التى تجعلنا نصف هذا العمل بكونه عملاً أدبيًا ودعوا إلى الابتكار والابتداع وتكسير القوالب اللفظية التقليدية التى أصبحت من كثرة ترديدها باردة لا طعم لها، واحتفلوا بالبراعة الصياغية ونزع الألفة من اللغة، ويقول "جاكبسون" فى هذا الصدد "أن موضوع الأدب ليس الأدب إنما أدبيته" أى تلك العناصر التى تجعل من عمل ما عملاً أدبياً، وبذلك كانت الشكلية مدخلا للبنائية، حيث اعتبرت أن المادة هى مشكلة الأدب، وأكدت على حق الشكل فى أن يحظى بأكبر قدر من العناية تفوق العناية بالمضمون؛ حيث إن الاتجاه البنيوى هو الآخر اتجاه نظرى يقف موقف المعارضة من الاتجاه الماركسى فى اعتقاده بأن الأدب يعطى معلومات عن المجتمع، ويركز بدلاً من ذلك على السمات الداخلية للأدب، بغض النظر عن مضمونه الإجتماعى والثقافى، ويهتم فى المقام الأول بالتحليل الداخلى للنصوص الأدبية والعلاقة بينها، وهو ما تؤكده "أمل حركة" بقولها "إن البينوية تمارس نقدًا من النوع "الكامن"، وترفض أن تنظر خارج النص أو مجموعة النصوص التى نتناولها للبحث. إنها نظرية تقوم على منهج يعامل النص معاملة خاصة، فقيمة شخصية من شخصيات مسرحية ما - على سبيل المثال – تتحدد لا بمقارنتها بما يقع خارج المسرحية، وإنما بشبكة العلاقات القائمة داخل المسرحية ذاتها، وبالشخصيات الأخرى التى تضمها."
"والعلاقة بين الشكلية والبنائية ليست حاسمة، وإن كانت واضحة، فالأولى ترسى أسس الاختلاف بين الشكل والمضمون، والثانية تحاول دمج الشكل فى المضمون، والدال بالمدلول، حيث تكمن الإشكالية الرئيسية للبنيوية فى انحيازها للدال (النص الأدبى) على حساب المدلول (المعنى)، فالدال هو ما نستطيع الثقة به لأنه مادى أما المدلول فيبقى مسألة فيها نظر، لأن الدال الواحد لابد أن ينتج مدلولات مختلفة لشخصين مختلفين بحسب اختلاف التجارب الفردية، فصار النص واحدًا والقراءات متعددة، "حيث يهدف التحليل البنائى إلى تعدد معانى الآثار الأدبية، التى تعتبر فى جوهرها رمزية، لا بمعنى أنها تعتمد على الصورة أو الخيال أو الإشارة، وإنما لقابليتها لتعدد المعنى".
وينبغى أن نميز فى هذا الصدد بين مصطلحين مهمين هما المعنى والتأويل، فمعنى أى عنصر فى العمل الأدبى يتحدد بإمكانية دخوله فى علاقة متبادلة مع عناصر أخرى فى العمل نفسه ومع الكل بصفة عامة، وعلى هذا فإن معنى أية صورة يتمثل فى تعارضها مع صورة أخرى، أو فى كونها أشد كثافة منها بقليل أو بكثير، ومعنى قطعة ما من الحوار الداخلى أو مناجاة النفس هو تحديد خصائص الشخصية التى صدر عنها، وهذا على عكس ما يحدث فى التأويل؛ إذ أن تأويل عنصر ما من العمل الأدبى يتوقف على شخصية الناقد، وعلى عصره وموقفه الأيديولوجى، ومن هنا يتضح الفرق الحاسم بين المعنى والتأويل، فالمعنى هو مناط البنية الأدبية ينتزع من داخلها، أما التأويل فينص على أندماج الناقد فى العمل الأدبى وتمثله حتى يتحول إلى مبدعه الثانى، وهو ما يرفضه الاتجاه البنيوى.
إن إلغاء الشخصية عنصر مهم فى البنيوية بما فى ذلك شخصية المؤلف أو الناقد (المتلقى)، فكلاهما عاملان خارجيان عن الأثر الأدبى لا يخدم موضوع الأدب ولا يمت له بأية صلة ومن هنا قدم "رولان بارت"R.Barthes (1915 -1980) أحد رواد البنيوية نظريته التى أصبحت شعارًا وثيق الارتباط بالبنيوية والتى "تنادى بموت المؤلف، أو ضرورة ذلك، حتى يتولد المعنى بعيدًا عن أية مؤثرات خارجية تحيط بالأديب ويتأثر بها إنتاجه الإبداعى.
إذن فمهمة الناقد البنيوى ليست اختبار مدى مصداقية الكاتب بالنسبة للعلاقة بالمجتمع، كما كان النقد الماركسى السابق يحصرها فى هذا النطاق، "إنما أصبحت مهمته أن يختبر لغة الكتابة الأدبية، يرى مدى تماسكها، وتنظيمها المنطقى، والرمزى، ومدى قوتها أو ضعفها، بغض النظر عن الحقيقة التى تزعم أنها تعكسها وتعرضها فى كتاباتها.
فالنص المسرحى (مثلا) فى عرف النقد البنيوى لا يتكون من فصول مرتبة من الفصل الأول إلى الثانى ....إلخ، لأن هذه هى أجزاء الجسم الخارجى، لكنه يتكون من أبنية، وأن هذه الأبنية تتمثل فى بنية الشخصيات، بنية الزمان الذى تدور فيه الأحداث، بنية الخطاب المسرحى (الحوار- السرد)، وغيرها من العناصر الداخلة، ويظل هدف البنيوية هو دراسة هذه الأبنية وعلاقتها ببعضها البعض، وكيفية تولدها، وكيفية أدائها لوظائفها الجمالية.
ونخلص مما سبق إلى أن البنيوية منهج ينظر إلى الأعمال الأدبية باعتبارها نظمًا رمزية دلالية تقوم فى الدرجة الأولى على مجموعة من العلاقات المتبادلة بين البنى الجزئية، "وترى أن قيمة العمل الأدبى تتمثل فى النص ذاته وما ينبثق عنه من جماليات لغوية ومستوى أدبى رفيع، وليس فى علاقته بغيره من المستويات الخارجية سواء كانت نفسية، أو اجتماعية أو تاريخية أو غير ذلك من المستويات". ويرى الباحث أن قصور دور الفن على إبراز النواحى الجمالية الداخلية يقلل من فرص خلوده، إذ أن الجمال ليس مطلق فكما يتغير مقياس الحياة بتغيير ظروفها يختلف الإحساس بالجمال من عصر إلى عصر وكذلك من طبقة إلى طبقة، ويتفق مع "جلبرت ميرى" Gilbert Murray فى قوله بأن إبداع أى عمل فنى لابد وأن يقوم على قصد المنفعة والاستخدام، فليس ثمة صورة ترسم لأناس عمى، ولا يبنى قارب فى غير وجود ماء".

نظريات النقد الإجتماعى من منظور فلسفى



د/ابراهيم حجاج - مدرس بقسم الدراسات المسرحية بكلية الآداب جامعة الاسكندرية
يمكن لنا أن نقسم المذاهب النقدية بشكل عام ومن منظور فلسفى إلى نقد يتجه نحو الواقعية وآخر يتجه نحو المثالية،" وقد اعتمد الاتجاه الواقعى على النظريات الفلسفية التى تستخدم العلوم التجريبية، وتطرح الخيال والعاطفة، وتركز على الشروط الاجتماعية ومثاله النقد التاريخى الإجتماعى الذى تطور على يد "تين" الذى ركز على الجنس والعصر والبيئة، وقد جاء هذا التطور نتيجة لانتشار "الدارونية" و"التطورية" فى العلوم الطبيعية، والنقد الأيديولوجى الذى يستخدم المنهج الماركسى الذى ينظر إلى الأدب على أنه يتبع المادة" بالإضافة إلى ما أفرزته علوم اللغة من مناهج نقدية كالبنيوية مثلاً.
"وبينما اهتمت الواقعية بالمادة والجسد والعلوم التجريبية اهتمت المثالية بالصورة والروح، ومجدت الخيال، والعاطفة، ونادت بعدم الغائية الخارجية، وأفرزت العديد من المناهج النقدية كالنقد الرومانسى والتعبيرى والرمزى. 
وإذا عدنا للنقد الإجتماعى، وجدنا أنه فى الوقت الذى ظهر فيه المدخل الاجتماعى الذى أسسه "تين" فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر على أسس وضعية، كان هناك تيار جديد يسعى إلى تأسيس نظرية اجتماعية للفن والأدب تنهض على فكر مؤسسى الماركسية: "كارل ماركس" K. Marx، و"فريدريك إنجلز" F. Engels، وينهض النموذج المجتمعى الذى قدمته هذه النظرية على أساس من مقولتى "البناء التحتى" ويقصد به (علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج) "والبناء الفوقى"، ويقصد به (الثقافة والفنون والفلسفة والدين والقانون...إلخ)، وأوضحت النظرية أن هناك علاقة متبادلة ومتفاعلة بين البنائين، مما يجعلها علاقة جدلية قائمة على التأثير والتأثر.
بمعنى أن "أى تغيير فى البناء الاقتصادى والاجتماعى (التحتى)، يؤدى إلى تغيير فى شكل الوعى أو مجمل البناء الفوقى الذى يعود فيؤثر فى البناء التحتى من خلال تثبيته أو تعديله أو تغييره فالواقع المادى فى تفاعل مستمر مع الأفكار، والتغيرات التى تحدث فى المجتمع نتيجة للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كلها تؤثر فى الوضع الإنسانى، ومن ثم فى شكل الدراما ومضمونه، وهذا يعنى أن الأدب انعكاس للواقع الاجتماعى.
يقول "ماركس" إن الجوهر الإنسانى ليس تجريدًا يحل فى كل فرد، إنه فى حقيقته مجموعة العلاقات الاجتماعية، ويقصد "ماركس" بهذا أن طبيعة الإنسان تقع خارجه، ممثلة فى مجموعة العلاقات الاجتماعية المحيطة به، ولهذا فإنه لا يستطيع أن يطمح فى تغيير نفسه (طبيعته) دون أن يتغير هذا الواقع الاجتماعى.
وما إن ظهر مصطلح الواقعية فى الأدب فى منتصف القرن التاسع عشر حتى صار تعبير "أن الفن انعكاس أمين للطبيعة شعارًا لها.
أما نظرية الانعكاس فقد ارتبطت بالمعنى الحرفى لها بـ"لينين" Lenin (1870-1924)، "حيث أكد أن إحساسنا وشعورنا ليس سوى صورة للعالم الخارجى، وهذا القول يؤكد على أن الأعمال الفنية – بصفة عامة- ما هى إلا انعكاس للواقع، وأن الأدب – بصفة خاصة – مرآة تصور الواقع الاجتماعى فى تناقضه وتعقده، ولذلك كان "توليستوى" عند "لينين" مرآة الثورة الروسية عام 1917، حيث كان مرآة حقيقية لتلك الظروف المتناقضة التى أحاطت بنشاط الفلاحين فى هذه الثورة.
ويعتبر "جورج لوكاتش" G. Luckacs (1880 - 1971) فيلسوف الواقعية الأكبر فى النصف الأول من القرن العشرين هو المنظر الأساسى لمبادئ النقد الماركسى، "ورائد من رواد البنيوية التوليدية، فهو أحد النقاد الماركسيين الذين أبدوا فهما عميقاً للمادية الجدلية، فعمل على تفسير الأدب برؤية جديدة، وجمع فى تفسيره بين القيم التى يتضمنها العمل الأدبى وبين الدلالات والمضامين الاجتماعية والسياسية التى يشتمل عليها هذا الأدب
لقد استطاع "لوكاتش" أن يتغلب على ما يوحى به مفهوم الانعكاس من أن الأدب مجرد مرآة تعكس تجليات الواقع أو مظاهره البادية فحسب، "لكنه المرآة التى تتلقى الصورة قبل أن تعكسها، والتى تتعامل بالقطع مع هذه الصورة بفاعلية يترتب عليها تغير الكثير من ملامح الصورة وتفاصيلها فى عملية أقرب إلى إعادة الصياغة منها إلى الانعكاس.

مسرحية "ماما أمريكا" بين التبعية الأمريكية والتثوير العربى.


د/ابراهيم حجاج مدرس بكلية الآداب .... قسم الدراسات المسرحية.

انطلق الكاتب "مهدى يوسف" فى نصه "ماما أمريكا" من ثيمة إنسانية متكررة، وهى ثيمة الحرية، ثم جسدها تجسيدًا دراميًا، ليسجل احتجاجًا صارخًا على معاناة وطننا العربى فى ظل الواقع السياسى الراهن فى إطار كوميدى ساخر وإسقاطات سياسية لاذعة.
وسيتناول الباحث هذا النص انطلاقًا من إجراءات البنيوية التوليدية واستلهامًا من نزوعها المنهجى، وإطارها النظرى لإدراك التماثل بين الأبنية الفنية والأبنية الاجتماعية، مرتكزا على النقاط الآتية:
1-     البنية الدلالية الكلية.
2-     عملية الفهم.
3-     عملية التفسير.
4-     رؤية العالم.
5-      الوعى الفعلى والوعى الممكن.
وسيبدأ الباحث بتحليل الأبنية الداخلية للنص (عملية الفهم)، فيدرس مجتمع النص (بنية الحدث ـ بنية المكان والزمان ـ بنية الشخصيات ـ بنية الحوار)، بهدف وصف البنية المتأصلة فى النص المدروس، والتفاعل القائم بين جزيئاته للوصول إلى البنية الكلية لهذا العمل الأدبى.
1- بنية الحدث
الحرية هى أسمى ما التصق بالإنسان من مبادئ منذ أن خلقنا الله سبحانه، وهى الزهرة التى تزين الديمقراطية، فمنذ أن عرفت البشرية النظام الديمقراطى، والحرية تحتل مكانا بارزًا فى مجموعة القيم والمبادئ، التى يتميز بها هذا النظام عن غيره من النظم والقواعد الدولية. ومنذ حصلت الولايات المتحدة على استقلالها، والحرية تمثل ركنًا أساسيًا فى دستورها، وفى إيمان الشعب الأمريكى بها، إلى حد أن التصق عالمها بالحرية وأصبح يطلق عليها "العالم الحر".
وكان من الواضح أن تسمية أمريكا بالعالم الحر فيه مغالطة كبيرة "ففى الوقت الذى كانت الدعاية الأمريكية تردد فيه هذا الادعاء، كان "ماكارثى" فى أمريكا يحاكم أى نشاط معارض للحكومة بتهمة النشاط المعادى للمصلحة القومية الأمريكية، ويصفه أيضًا بالشيوعية، وكانت وسائل الإعلام الأمريكية تمارس نشاطها المعهود فى غسيل مخ الأمريكيين، وتفقدهم بالتدريج عادة التفكير الحر والنقد لأى شئ فى النظام الرأسمالى." ([1])
وقد تناول الكاتب "مهدى يوسف"، ثيمة الحرية من خلال، علاقة أمريكا بدول العالم العربى، ليوضح مساحة الحرية التى منحتها الولايات المتحدة الأمريكية -بوصفها الإمبراطورية المهيمنة على العالم فى الوقت الراهن- للعرب فى ضوء علاقتها السياسية بالمنطقة العربية، وإلى أى مدى نجحت أمريكا فى إعلاء شأن الحرية وتدعيمها فى المحيط العربى؟.
اعتمد النص على البناء التراكمى فى صورة لوحات متعاقبة بترتيب سير الأحداث، حيث تتكون المسرحية من فصلين، الأول ينقسم إلى أربعة مشاهد، بينما يحتوى الثانى على ستة مشاهد. وبالرغم من تعدد المشاهد امتاز النص بطبيعة الحدث الأساسي الذى تنبثق عنه الأحداث التالية له، ويستدعيها على وجه الضرورة أو الرجحان.
فالحدث الرئيسى فى المسرحية، هو وفاة الأب "شحاتة" كبير عائلة "منافع" تاركًا وصية لأولاده الستة (عايش، علام، عذاب، عاشور، عبود، عفاف)، وكان وقع المفاجأة قويًا على الجميع، عندما علموا من، المحامى الموكل بفتح الوصية، أن والدهم الفقير المعدم، قد ترك لهم ثروة ضخمة تقدر بثلاثمائة فدان.
"مأمون:  التلتميت فدان دول يا أخ عايش هايتقسموا عليكوا كلكم كاللآتى
الأخوة:  (يفرحون ويهللون).
مأمون:  أربعين فدان لأبنى البكرى المتيسر عبود.
عبود:    الله يرحمك يا دادى الفتحة (يقرأون الفاتحة)
مأمون:  أما ابنى علام سبعين فدان.
علام:    سبعين يدخلونى أداب عين شمس.
عايش:   حلو قوى.. الله يرحمك يابا.. حلو أربعين وسبعين ميت فل وعشرة.. ها.
مأمون:  أما ابنتى الوحيدة عفاف سبعين فدان.
عفاف:   سبعين بس.. الرأى رأيك يا حنين..الله يرحمك بقى يابا.
عايش:   كدة مية وتمانين طاروا.. ها.
مأمون:  وستين فدان لولدى عاشور.
عايش:   اعدل ميزانك يا بتاع البرتقان....
مأمون:  أما الستين فدان الباقية..... لولدى الذى لا يمكن أن أنساه.....ولدى عذاب"([2])
وتثور ثائرة "عايش"، بعد أن خرج من تقسيم التركة خالى الوفاض ويحاول المحامى تهدئته، ويخبره بأن والده كان يعتبره درة إخوته وأكثرهم احتياجًا، لذا ترك له وصية منفردة، حيث خصص له أرضًا تقدر بمائتى فدان فى الجهة البحرية من أرضهم، على أن يكون لهم حق استغلال الأرض فحسب، ولعايش حق البيع والتصرف، ومن هنا يحدث الصدام بين "عايش" وأخوته، ويصل إلى درجة التطاول على الأب المتوفى والتشكيك فى قواه العقلية.
وتعلو نغمة التطور الدرامى، لينتقل من المفاجأة إلى الصدمة التى وصلت ذروتها بإعلان المحامى أن هذه الأرض قد تم الاستيلاء عليها من قبل عائلة "الشفاط"، وأن أخاهم "عايش"، هو المنوط به استرداد حقه وحقوق إخوته من براثن المغتصب.
" مأمون: (مواصلا القراءة) ولكن أجدادكم كانوا يمتلكون ثروات وكنوز وخيرات نهبتها عائلة الشفاط... وعائلة الشفاط هى عدوكم اللدود على مر السنين... وعليك أنت يا عايش أن تتصدى لعائلة الشفاط لاسترجاع أرضكم العزيزة إلى قلبى، ومقابل أتعابك فى قضية استرجاع حقك وحق أخوتك تركت لك ملكية هذا الدار باسمك وحدك يا عايش"([3])
ويتنازع الأشقاء من جديد، بسبب الدار التى وهبها والدهم، "لعايش" دون غيره، ويعلن كل منهم أحقيته فى امتلاكها. وهنا يخرج المحامى مهرولا فى خوف، تاركًا لعايش مهمة تكملة قراءة الوصية، ليفجر آخر مفاجآتها.
"عايش:  (يكمل القراءة) أما العربية الأجرة التى تعمل عليها يا عايش فأتركها لكم جميعا ترتزقون منها ومن إيرادها عليك يا عايش أن تسدد رهنية هذا الدار أربعين ألف جنيه." ([4])
ذلك هو الحدث الرئيسى الذى نسجت حوله باقى أحداث المسرحية، بعده يدب الخلاف بين الأشقاء الستة، ويتفق الجميع على بيع (العربية) القديمة، الشئ الوحيد الذى يربط بينهم، وتأتى سيدة الأعمال الأمريكية "أميرة كامل"، التى تهوى اقتناء كل ما هو قديم بصحبة مدير أعمالها "شومان" لشراء تلك السيارة، ولكن الحظ العاثر يعاند عائلة "منافع"، حيث تحترق السيارة قبيل وصولهما، وبالتالى تفشل الصفقة، وترفض "أميرة" بالطبع شراء السيارة المحترقة، ولكنها ـ فى الوقت ذاته ـ ترثى لحال "عايش"، وتتعاطف معه، فتعرض عليه تسديد قيمة رهن المنزل، فى مقابل استئجاره لمدة سنتين أو ثلاث، لجعله مقرًا لفرع مؤسسة "حماية حقوق الحمير" الأمريكية، التى ترأسها. وبالرغم من روح الكوميديا التى تسيطر على المواقف، لم يخل الحدث من إثارة ذهن المتلقى للتفكير فيه، وكان "عايش" خير عونٍ له فى ذلك، بانتقاداته الساخرة وأسئلته الاستنكارية التى يوضحها الحوار الآتى:
"عايش:  مؤسسة أمريكية؟ جمعية حماية حقوق الحمير؟ الحمير الحمير؟ ولا الناس اللى زى الحمير؟
أميرة:   أنا مش فاهمة أنت مستغرب ليه؟
عايش:   مستغرب ليه؟ هما الأمريكان خلاص إدوا الناس حقوقها وبيرمحوا ورا حقوق الحمير؟ هى الحمير لها حقوق يا ناس؟"([5])
 ومن خلال الأحداث، نكتشف طبيعة العلاقة التى تجمع بين "أميرة" و"شومان"، مما سيكون له الأثر فى دفع الحدث الدرامى إلى آفاق أكثر اتساعًا ورحابة.
"أميرة:   شومان....شومان
شومان:  جرى إيه با أميرة.... أنت عاوزة تودينى فى داهية أنا هنا مش شومان
أميرة:   خايف ليه... ما هو مش سامعنا؟
شومان:  ده واحد... لسة اخواته الخمسة ماجوش.... ولو عرفوا إن إحنا من عيلة الشفاط حايدفنونا هنا بالحيا... ودول همج.
أميرة:   جرى إيه يا شومان... وإيه اللى حايعرفهم إننا من عيلة الشفاط وبعدين حاتخاف من شوية عيال جرابيع زى دول... أنا أميرة كامل الشفاط"([6]).
ويكون وقع الصدمة على "عايش" شديدًا عندما يكتشف حقيقة "أميرة كامل"، لحظة توقيع عقد الإيجار، وتحاول إقناعه بأنها، وإن كانت تنتمى إلى عائلة "الشفاط" إلا أنها تختلف عنهم؛ فقد حملت على عاتقها إصلاح ما أفسدته عائلتها، وما ارتكبته من جرائم، فى حق عائلة "منافع".
"عايش:  لو حطيت إيدى فى إيد أميرة كامل علشان أعيش إخواتى ح يعايرونى... ولو رفضت إيدها أو مساعدتها ح أموت م الجوع وإخواتى يذلونى... أحل اللغز إزاى؟ أحله إزاى... إزاى"؟([7])
ويبدأ الفصل الثانى وقد تكشفت أطراف الصراع، الذى ستنسج خيوط أحداثه، بين عائلة "عايش شحاتة منافع" وعائلة "أميرة كامل الشفاط".
ويعتقد "عايش" أن التحالف مع أبناء عائلة الشفاط، سوف يعيد إليهم حقوقهم المسلوبة، لذا يوافق على تأجير البيت، والأكثر من ذلك يوافق على تعيينه مديرًا لفرع المؤسسة الجديد، مما يثير حفيظة أخوته.
"عايش:  فجأة اخترقت جبهتهم... عملت عليهم السيناريو المحكم، أجبرتهم وأحرجتهم لحد ما عينونى مدير للجمعية.
علام:    تبقى بعت القضية... وبعت عيلة منافع بثمن رخيص.
عايش:   بلاش الكلام الكبير ده... أنا عملت كده بالذات علشان أخش فى زوارقهم... وأرجع كل اللى أتنهب من عيلة منافع." ([8])
ويفشل الطرفان (الشفاط ـ منافع) فى الوصول إلى حلول ودية، بشأن الأرض المسلوبة، مما يدفع بالأشقاء إلى اللجوء إلى القضاء، ورفع دعوى بنفى الملكية، والادعاء بالتزوير للحصول على حقهم المغتصب. وينصف القضاء العادل عائلة "منافع"، ويحكم بعودة الأرض (المائتى فدان) لصاحبها الحقيقى "عايش شحاتة"، مما يثير حالة من الغضب والاستياء فى نفس "شومان"، و"أميرة"، وتدير الأخيرة باحتراف مقنن ومدروس خطة للإيقاع بعايش بوصفه أكثر أخوته اهتمامًا بالقضية، فتعرض عليه الزواج، بل وتذلل أمامه كافة العقبات التى تحول دون ارتباطهما.
"أميرة:   لقيت الحل... عارف إيه الحل يا عايش... قوم يا عايش... أنا حاكتبلك نص ثروتى علشان تقرب المسافة بينا... فهمت يا عايش؟
عايش:   أفهم إيه أنت أكيد اتجننتى... عاوزة تكتبيلى نص ثروتك قصاد إيه؟... قصاد البيت ده والميتين فدان؟
أميرة :  إيه يا عايش... ما أنت حتبقى جوزى... أنا حسجلك عقد البيع وتعملى توكيل فى الشهر العقارى بالتصرف فى أملاكك علشان إخواتك ما يورثوكش.
عايش: المهم حنتجوز أمتى؟."([9])
ويقرر "عايش" الزواج من "أميرة كامل"، وهى بدورها تقرر السيطرة التامة والدائمة، لا على ممتلكاته فحسب، بل على عقله أيضًا، وتكتمل خطوط مؤمراتها، بالاتفاق مع "شومان"، لإعطائه عقاقير تمحو قدراته العقلية والجسدية بوصفها منشطات لتقوية قدراته الجنسية، وذلك تمهيدا لاستلاب العائلة، أملاكها وأفرادها.
"شومان: أنا خايف يتحكم فيكى.
أميرة:   مش حيلحق... لأنى هديله حقن الـ H.H الأمريكانى
شومان:  الـH.H اللى بنديها للحمير علشان نزود قدراتها؟
أميرة:   من الأبحاث السرية للمؤسسة فى أمريكا أنهم جربوها أكثر من مرة على إنسان وجابت نتيجة عكسية.
شومان:  ودى حتعمله إيه؟
أميرة:   بيحصله تغيرات.. صوته بيتغير ويفقد السيطرة على أطرافه والأهم بتمسح خلايا المخ تماما وتخليه زى الطفل." ([10])
ويكتشف "عايش" ـ بالصدفة ـ تفاصيل المؤامرة، ويقرر مواجهة الخداع بالخداع، فيتصنع الجنون، ويبدأ فى التحرك بصورة هيستيرية كالحمار، يملأ المكان ذهابًا وجيئا، إلى أن يركع على قدميه باكيًا مع دخول "أميرة كامل"، التى تخبره بأن المؤسسة قد اختارته كضيف شرف للمؤتمر السنوى العالمى الذى سيعقد فى أمريكا، وتطلب منه مقابلة موظف الشهر العقارى ـ قبل سفره ـ وذلك للتوقيع على توكيل، يحق لها بموجبه، التصرف فى كل ممتلكاته ويتقمص "عايش" -أمام موظف الشهر العقارى- شخصية طفل رضيع، ويبدأ يلهو ويعبث بكل ما حوله، إلى أن يمزق ورق سجل التوكيلات، مما يثير غضب الموظف، ويدفعه إلى الانصراف دون تكملة الإجراءات.
"شومان:        كده... كده يا كلب ... مش قلنالك انكتم (يضربه على يده كالأطفال) وبعدين حنعمل حكاية التوكيل ده ازاى؟
أميرة:   مش مهم... احنا نقدر دلوقت بعد اللى هو فيه ناخد البيت والأرض والمية.
عايش:   أمبو ماما ما... أمبو.
شومان:  ده غير اللى حتدفعه المؤسسة. لما نقدم لها حالة زى دى.
أميرة:   بس ده لازم يفضل فى البيت لحد ما ناخده ونسافر أمريكا." ([11])
هنا يقتحم أشقاء "عايش" المشهد فى هلع وثورة، بعد معرفتهم بحقيقة المؤامرة التى تم تدبيرها لتدمير شقيقهم واستلاب عقله، مطالبين "أميرة" بتسليمه إليهم، وتبوء محاولتهم بالفشل، بعد تدخل الحرس الخاص بٍأميرة كامل، واجبارهم على الرحيل. وفى تلك الأثناء يدخل "عايش"، وهو يحبو على ركبتيه، متجها نحو "أميرة كامل" صائحا فى بكاء.
"عايش:  ماما ماما.
أميرة:   ماما أميرة كامل.
عايش:   ماما أميرة كا... أميرة كا... أميرة كا." ([12])
ويأتى المشهد الختامى للمسرحية أمام تمثال الحرية فى أمريكا حيث تتم عملية المكاشفة بين "عايش" و "أميرة"، فهناك يواجهها عايش بالحقيقة، وبعلمه بتفاصيل المؤامرة التى دبرتها ضده، بالتعاون مع "شومان"، ويعلن فضه للرباط الذى يقيده بها، فيطلقها ثلاثًا، مشيرًا باصبعه مؤكدًا يمينه، وهنا يحدث دوى انفجار قوى يتحطم على أثره تمثال الحرية ويتناثر حطامه، بينما يقف "عايش" مبهوتا، كما لو كان لا يصدق ويموج المسرح بحركة هرج ومرج، وتدخل قوات أمن أمريكية وتحاصر "عايش"، الذى قد أصبح وحيدًا بعد فرار "أميرة" و "شومان"، ويتجمع عدد كبير من الشباب والفتيات الأمريكان، بينهم فتاة عربية، وبعد تفحص أوراقه والتأكد من هويته (عربى ـ مصرى) يتم القبض عليه بتهمة الارهاب، وتحاول الفتاة العربية الدفاع عنه دون جدوى، وهنا يفيض الكيل بعايش، ويفجر ما بداخله من ظلم ومعاناة.

"عايش:  لأ مشى حاجى معاكوا... لازم تقولولى الأول جريمتى إيه؟ اتكلموا يا بتوع حقوق الإنسان... طب حقوق الحمير حتى.... هى إيه الحكاية؟ هو أنا يا عقلى يتمسح ياتطلعونى فى الآخر ارهابى... لا حاتكلم... حاتكلم عن بلاويكوا السودة فى العالم كله... حاأتكلم وأقول أنتوا إيه؟ حاأقول أنتوا إيه؟"([13])
ويوجه "عايش" نداء إلى كل عواصم العالم لتنتبه إلى هذا النظام العالمى الجديد الذى وضع لتدمير المنطقة العربية، ويختتم نداءه بدعوة حب تجمع الإنسانية كلها.
ومن الوصف السابق لبنية الحدث الدرامى فى مسرحية "ماما أمريكا"، يتضح اعتمادها على ثنائية "التابع والمتبوع"، وهى ثنائية رئيسية تدور فى فلكها ثنائيات عديدة مثل (الفقر والغنى) و (الاستلاب والاسترداد) و (التغييب واليقظة) و (الضعف والقوة). هذا بالإضافة إلى ارتكازها على الكوميديا النابعة من المواقف والشخصيات، حيث ساعدت السخرية الحادة ـ فى بعض الأحيان ـ على تكثيف الموقف وإطلاق أقصى طاقات التعبير عنه، "كمشهد إعلان الوصية، حيث قام المحامى بإعلان ما جاء فيها تدريجيًا مفجرًا المفاجآت التى تدعو إلى الضحك."، ([14]) ومشهد تأجير البيت لجعله مقرًا لمؤسسة حماية حقوق الحمير. إلى جانب المواقف المعتمدة على سوء التفاهم مثل مشهد تعرف "أميرة كامل" على "عايش شحاتة" واندهاشها من الاسم الذى استقبلته فى البداية على أنه وصف للحالة المعيشية التى يحياها.
"أميرة:   قولى... إسمك إيه؟
عايش:   أنا عايش شحاتة.
أميرة:   طيب... إسمك إيه؟
عايش:   دى فلة بقى ولا إيه... أنا عايش شحاتة.
أميرة:   خلاص عرفت... إسمك إيه بقى؟
عايش:   لا إله إلا الله... أنا عايش شحاتة... والله أنا عايش شحاتة وكتاب الله أنا عايش شحاتة.
أميرة:   ما أنا فاهمة أنت عاطل يعنى.
عايش:   لا أنا مش عايش شحاتة... بس أنا عايش شحاتة." ([15])
أما النوع الآخر من روح الكوميديا الذى يتسلل إلى جسم المسرحية، فينهض على الشخصية نفسها، خاصة شخصية البطل "عايش"، عندما يحاكى "الحمار" أمام "أميرة كامل"، و "الطفل الرضيع" أمام موظف الشهر العقارى، بجانب تلاعبه بالألفاظ، واستخدام اللفظ الواحد بأكثر من معنى.
"عايش: الفاتحة
الأخوان: بسم الله الرحمن الرحيم (ويقرأون الفاتحة).....
عايش:   (مصححا) الفاتحة.... الفاتحة بتاعة الوصية بتاخد فيها كام يا أستاذ؟"([16])
كما تضمن البناء الدرامى بعض الملامح التغريبية مثل تقسيم المسرحية إلى مشاهد والخطاب المباشر إلى الجمهور فى نهاية النص، إلى جانب توظيف الأغانى بقصد توصيل الحالة الوجدانية للموقف الدرامى، أو تلخيص معناه، ومثال ذلك الأغنية التى أعقبت قراءة الوصية.
"عايش: عينى ع الحق المديون


سيدى على البيت المرهون.

دى حقوقنا اللى ورثناها


دى ديون مديونة بديون.

الصوت: مكتوب عليك يا عايش


تشيل إنت الوصية.

وعشان تعيش يا عايش


خد بالك من القضية.

لخواتك من أيديك


شيلهم فى حبابى عينك.

عايش: دنا عايز حد يشيلنى


أنا عايز اللى يعنى." ([17])

"كما ساهمت الأغنية فى نهاية المسرحية فى لعبة التحريض والرفض"([18])، وتقديم المقولة الأساسية للنص بعد اكتشاف "عايش" للحقيقة وسقوط الأقنعة عن "أميرة كامل" و"شومان".

"عايش: يا كل فرد فى كل ملة


وكل جنس وكل دين.

يا كل فرد فى كل حتة


ويا فرد فرد فى أى حتة.

مافيش ضعيف


مافيش قوى.

مافيش فقير


ومافيش غنى

مافيش أبيض ولا أسود


مرفوضة العنصرية

الفتاة العربية: الله عليها خطوتك


وجنب منها خطوتى

عايش: الله عليها سكتتك


لما تقابل سكتتى

عايش والفتاة:نفرح سوى


نبنى سوا

نقسم سوى


نسمة هوا"([19])

وقد جاء البناء الدرامى كنسيج متماسك ومتشابك من الأحداث التى تكشف ببراعة عن العلاقة بين الاختلاف بين الأشقاء الذى أدى إلى نهب ثرواتهم، واتفاقهم وتوحدهم فى النهاية، الذى أدى إلى استعادة قدرتهم على المواجهة.
2- بنية المكان والزمان:
يعتبر المكان، أحد الوسائل التى تحمل مضمون النص المسرحى، وهو جزء من نظرية تفاعل المتلقى مع النص. وقد استخدم الكاتب فى نص "ماما أمريكا" انتقالات سريعة للمكان من منزل "عايش" إلى الجمعية الأمريكية لحماية حقوق الحمير، إلى غرفة نوم "أميرة كامل"، إلى ساحة تمثال الحرية بنيويورك.
تبدأ المسرحية بمنزل عائلة "عايش"، وهو عبارة عن "أحد القصور القديمة المتهالكة، فى ضاحية من ضواحى المدينة، بهو قصر وجدران بالغة القدم، يحيط به ست غرف بستة أبواب أثرية مختلفة الطراز، ولكنها متشابهة بملمح عربى قديم، ويوجد فى المؤخرة باب حمام مشترك للغرف الست، إلى اليمين يوجد مدخل البهو المؤدى إلى الخارج (خارج القصر)، وفتحة المسرح تمثل الحائط الرابع للبهو الصغير، الذى نرى به بعض الأثاث من كنبة شرقية، ومرآة كبيرة لها إطار عربى من الخشب المشغول، وهناك أيضًا قاعدة خشبية قليلة الارتفاع، عليها صينية نحاس مشغولة بالحفر، مستديرة فى شكل طبلية، وعدد ست ديوانية من الجلد كمجلس، وفرشة أرضية من قصاقيص القماش الملون الموصول فى شكل سجادة، يوجد فى المؤخرة منضدة متهالكة بجوار أحد الحوائط بين بابى غرفتين، وتوجد ساعة حائط لا تعمل، عليها آثار تراب، وعقاربها ثابتة عند الثانية عشر، ونتيجة حائط ورقية يبدو عليها القدم." ([20])
وبذلك يحتمل "البيت" دلالة مزدوجة، واقعية كبيت عادى لمواطن ما، ورمزية بما يشير إليه من دلالات مكونة فى النهاية فكرة البيئة العربية، على اختلاف أنماطها. وإلى جانب تصور المكان فى النص باعتباره حاملا لمعنى ولحقيقة أبعد من حقيقته الملموسة، فثمة علامات مادية تعمق دلالات معينة، وتؤكدها، منها ساعة الحائط بعقاربها الثابتة عند الثانية عشر، ونتيجة الحائط الورقية القديمة، وما تحملاه من دلالة تخلف أصحاب البيت عن مسايرة الحاضر، ووقوفهم عند حدود الماضى.
       فى الفصل الثانى يكتسب المكان دلالة جديدة، "وقد طمست فيه الملامح الشرقية، ولم يبق منها إلا القليل، وأصبح المكان مقرًا لجمعية حماية حقوق الحمير، مما استوجب وضع بعض اللوحات على شكل هيكل عظمى للحمار، ذو جمجمة، والمكان أصبح يتسم باللمسات العصرية الغربية الفجة، وقد يحدث بعض التغيرات المعمارية للتلائم مع الأحداث الجديدة، والأثاث قد تحول إلى أثاث عصرى." ([21]) وبتلك التحديدات المكانية السابقة - بمقارنتها بالفصل الأول – يمكننا أن نرصد ثنائية (المكان/ المكان المضاد)، بحيث تشكل تلك المفارقة المكانية إحدى الدلالات الرئيسية فى النص، وهى دلالة التبعية القائمة على طمس الهوية. وينتقل المكان فى المشهد الثامن إلى "حجرة النوم الرئيسية فى قصر "أميرة"، حجرة كبيرة وفخمة، بها سرير مستدير حوله ست (بوفات)، وهناك أيضا تسريحة ومنضدتان، وأباجورات تستخدم كمصادر للإضاءة وهناك باب حمام داخلى والباب الرئيس للحجرة، كما يوجد ثلاث عدد تليفون ملونة وماكينة فاكس، وتليكس وكمبيوتر وشاشة تليفزيون".([22]) وبهذا الوصف، يحمل المكان صفات يخرج بها عن طبيعته المنطقية كمكان للنوم والراحة، فى دلالة على قيمة الكد والعمل المناقضة لحالة السكون والاسترخاء فى منزل عائلة "عايش". وفى المشهد الأخير ينتقل المكان إلى "ساحة تمثال الحرية فى نيويورك حيث هو قائم مجسد على خشبة المسرح فى حجم كبير فى المؤخرة".([23]) ويكتسب المكان دلالته فى هذا المشهد عند حدوث الانفجار وتناثر أجزائه، فى دلالة على هشاشة الحرية فى أمريكا.
وبذلك استطاع الكاتب من خلال المكان، تقديم دلالات متسعة ومتنوعة تخدم رؤيته الفكرية.
كما يصف الشاعر زمن المسرحية تبعا لأبعاده الواقعية، ابتداء من الإطار العام (الوقت الحاضر)([24])، وحتى التنويعات الداخلة ضمن تركيب الحدث والسياق، فيبدأ النص وقت الغروب، بما يناسب الحالة النفسية لأفراد عائلة "عايش" فى ظل الوضع المتردى الذى تعيشه، والبيت المتهالك الذى تقطنه هذه العائلة. ثم يتوزع الزمن بعد ذلك تباعًا بين مطلع الفجر وبداية النهار.
كما يوظف الكاتب الإضاءة بشكل تعبيرى فعال للدلالة على ثنائية القوة والضعف، فيستخدم الإضاءة الخافتة التى تعطى الإحساس بالظلام، فى مشهد بيت "عايش"، حيث يظهر كالأطلال المهدمة، بينما يستخدم الإضاءة القوية المبهرة فى مشهد حجرة نوم "أميرة كامل".
3- بنية الشخصيات:
الشخصية من العناصر الأساسية فى النص الدرامى، "وتكمن أهميتها فى كونها محرك الحدث ومحوره، وعلى أساسها تعمل الحبكة، وهى الناطق الوحيد بعقل ولسان الكاتب، ومن خلالها يعرض مجمل أفكاره داخل صراع درامى"([25]) يزخر بالحركة والإيقاع المتدفق.
وتشكل الشخصيات فى نص "ماما أمريكا" ثنائية درامية هى (التابع والمتبوع)، (الفقير والغنى)، (الضعيف والقوى)، ومن التناقض بين طرفى الثنائية يتولد الصراع الدرامى بين عائلة "عايش"، وعائلة "أميرة كامل الشفاط".
"وتمثل شخصيات عائلة "عايش" حالة التفسخ الاجتماعى والتطاحن بين الأخوة، فمثلا الأخ الأكبر "عبود"، نموذج الغنى الأنانى، الذى يتاجر فى كل شئ، وأى شئ، ويرمى لإخوته ما تبقى منه من الفتات، بل ويطمع فى ميراث الأب، ويسرق حق أخيه "عاشور" الذى يعمل معه كأجير فى أحد مصانعه، والذى يمثل القوة الفاقدة للعقل والتدبر، والأخ الأصغر "عذاب"، السلبى الذى يتاجر بمرضه الوهمى، من أجل كسب عطف الآخرين، وابتزازهم ماليًا، والأخ المثقف "علام"، مدرس التاريخ الغائب عن الوعى بفعل تعاطى المخدرات، والذى لا يتحدث إلا عن الأندلس والمجد العربى الماضى والغائب، ثم الأخت الوحيدة "عفاف"، التى فشلت فى كل تجاربها، الحياتية والعاطفية، وتعيش معلقة- فى انتظار ما تسفر عنه قضية طلاقها-  فى منزل العائلة، الذى يحوى كل هذه الأنماط المتناقضة، بما فيهم "عايش" الذى يرعى إخوته، ويحمل همومهم إلى جانب رعايته لأولاد زوجته المتوفاة (من زوج آخر). وتصل الخلافات بين "عايش" وأخوته، إلى حد اتفاقهم – مثلا – على ألا يتزاوروا حتى لا يختلفوا.
"عبود:   أول هام.. الفلوس والسلف لما بيخشوا بينا بيحصل خلافات.
عايش:   خلاص مافيش حد فينا يسلف التانى.. المهم نفضل إخوات.
عاشور:  تانى هام.. إحنا لما بنشتغل مع بعض ونتشارك فى مشروع بيحصل بينا فرقة وخناقات.
عايش:   خلاص مافيش بينا شغل.. المهم نفضل إخوات.
علام:    تالت هام.. لما بتنافس فى شئ يهمنا أو ما يهمناش، كل واحد فينا عاوز يمشى رأيه على التانى فبتتربى فى نفوسنا عداوات.
عايش:   ماشى مافيش بينا مناقشات.. المهم نفضل إخوات.
عذاب:   رابع هام.. لما حد فينا بيتخانق مع أخوه.. لو حد فينا إدخل بينهم بيشعللها أكتر.. ويبقى بينا كلنا أزمات.
عايش:   خلاص مافيش أخ يدخل بين أخ وأخوه.. المهم نفضل إخوات.
عفاف:   خامس هام.. إحنا لما بنزور بعض وكل واحد بيشوف حال التانى بيحسده وممكن يوقع أهل بيته فى بعض فبتحصل حزازات.
عايش:   خلاص بلاشى نزور بعض.. وأهى العربية حتتباع يعنى مش حيفضل بينا حاجة." ([26])
وقد تعمد الكاتب "تسمية بعض الأشخاص بمعانيها مثل، عايش شحاتة: الفقير المعدم، علام: المثقف، عذاب: المريض".([27]) كما تمثل "أميرة كامل" و"شومان" قطبا عائلة "الشفاط" مع التركيز على دلالة اسم (الشفاط)،- بكل ما يحمله من معانى النهب والاستيلاء – الطرف الأقوى فى الصراع الذى يستثمر حالة التفكك التى يعانى منها الأشقاء الستة، ليسيطر على ما تبقى من أملاك العائلة وأفرادها، وتدمير عقلها المفكر "عايش".
وتمر شخصية البطل "عايش" بمرحلتين:
·  مرحلة الوعى الفعلى (الوعى السلبى بالحاضر)     
·  مرحلة الوعى الممكن (الوعى المتفجر)
·  مرحلة الوعى الفعلى: فيها يقرر "عايش" قبول المساعدة من "أميرة كامل" ومشاركتها العمل فى مؤسسة حماية حقوق الحمير، بل والزواج منها، واهمًا أنه يستطيع بذلك استرداد حقوقه وحقوق إخوته المسلوبة. وفى هذه المرحلة يوظف الكاتب ملابس الشخصية كعلامات قابلة لعملية الإزاحة المستمرة من الشئ إلى المغزى، فمثلا بدلة الزفاف، بيضاء بخطوط طولية سوداء، وحذاء ضيق يسبب له مشكلة فى السير، دلالة مرادفة لتحول "عايش" بعد زواجه من "أميرة كامل" إلى تابع متعثر الخطى، بلا عقل (حمار).
·  مرحلة الوعى الممكن:      يبدأ بعلمه بالمؤامرة التى دبرتها "أميرة كامل" ضده بالتعاون مع "شومان"، وقراره بالمواجهة، وفضح ألاعيب "أميرة كامل، التى لا تختلف عن ألاعيب أمريكا كقوة استعمارية جديدة، وقراره بالانفصال عنها.
وتتحدد صورة "عايش" بالتضاد مع صورة "أميرة كامل" التى تطورت بنية شخصيتها من خلال ثلاثة محاور أساسية هى:
·  مرحلة القناع:        وهى المرحلة التى ارتدت فيها "أميرة كامل" قناع الفضيلة والبراءة، فتقدم نفسها لعايش بوصفها ملاك الرحمة الذى سيزيح عنه همومه ويخلصه من مشاكله، وذلك بهدف استمالته وكسب ثقته تمهيدًا لاستلابه.
·  مرحلة التآمر:        وتبدأ مع تآمرها بالتعاون مع "شومان" لاستلاب عقل "عايش" بحقن H.H الأمريكية وانتهت بفرض سيطرتها الكاملة عليه.
·  مرحلة سقوط القناع:  وبدأت مع كشف "عايش" لحقيقتها ومواجهته لها، وفيها لزمت الصمت ثم فرت هاربة، بعد انفجار تمثال الحرية.
إن أى نص مسرحى يشتمل بالضرورة على موقف وصراع واشتباك وجدل وتحول وتغير، "وفى كل تجربة مسرحية حقيقية يتفجر نوع من الصراع أو المعارضة بين صورة العالم التى يتبناها النص المسرحى وصورة العالم فى ذهن المتلقى، وقد ينتهى الصراع، إلى تغيير الوعى بدرجات تترواح بين الخلخلة أو التنوير الكامل،"([28]) كما حدث لعايش بطل نص "ماما أمريكا" فى نهاية المسرحية.
"عايش:  ملعون اليوم اللى نسيت فيه وصية أبويا ومشيت فى سكتك سكتك اللى بدأتها بأول خطوة تنازل جت بعدها تنازلات كتير.. ملعون اليوم اللى صدقت فيه إنك ممكن تقفى مع الحق ضد ابن عمك.. نظام إيه ده اللى عايزة تاخدى بيه بيتنا وأرضنا وميتنا وفوق منهم كرامتنا؟.. نظام إيه ده اللى مشغللنا فيه حقوق الإنسان حسب مزاج أهلك.. بس أنا مش حمار يا أميرة كامل.. أنا لحقت عقلى فى آخر لحظة فى (الإن تايم) وخليت إخواتى يشوفوا السكة اللى كنتى عاوزة تاخدينا فيها دلوقتى أنا فضلى عقلى وعلشان تفضلى كرامتى.. إنتى طالق.. طالق.. طالق."([29])
وبذلك ينتهى الصراع بتحرر "عايش" وعائلته من أسر "أميرة كامل"، بعد أن استرد وعيه قبل فوات الآوان.
- بنية الحوار:
الحوار هو القالب اللغوى الذى يصب فيه الكاتب الدرامى عباراته، "ويعتبر الحوار أحد الوسائط الهامة فى التعبير الدرامى، فهو ينقل لنا حال الشخصيات، ومحط همومها، كما يفضح الغاية التى تسعى إليها."([30])
وقد ارتكز الحوار فى نص "ماما أمريكا" على الكوميديا والدعابة اللفظية التى تتشكل طبقًا لمتطلبات المواقف وطبيعة الشخصيات، حيث اعتمد النص على التلاعب بالألفاظ، والتعليقات الذكية الساخرة السريعة المتلاحقة، التى لا يكمن هدفها فى الترفيه والتسلية والإضحاك فحسب، ولكنه يتركز أيضًا فى الإيحاء بمعانى ومدلولات تجسد فكر الكاتب، وتقربه من وجدان المتلقى، الذى قد يضحك ولكن ضحكه لا يعلو على صوت القضية التى يطرحها النص.
وقد استخدم الكاتب حوارًا نابعًا من روح الحياة اليومية المعاصرة فى حديث الشخصيات، وحشده بالعديد من الثنائيات اللفظية مثل (القوة والضعف)، (الفقر والغنى)، (الكرامة والإذلال)، (الفرقة والاتفاق)، (الحب والكراهية)، (الزيف والحقيقة)، (الانتصار والهزيمة)، وغيرها من الثنائيات التى ساهمت فى إبراز الصراع الدرامى بين الشخصيات.
كما فرضت طبيعة شخصية "أميرة كامل" (السيدة الأمريكية)، ورجال الأمن الأمريكى فى مشهد انفجار تمثال الحرية، استخدام مفردات أجنبية مثل.
·  أميرة كامل         : آى آم هير – إن ديرتى هاوس – نوت ناو – كول مى أجين – آى آم بيزى ناو – جود باى – نايس تومى يو – سيت داون بليز.
·  رجال الأمن الأمريكى: دونت موف – يور باسبورت بليز – آريو إيجبشين - يو آر إيه تيروريست.
ومن خلال المفردات الأجنبية، تولدت ثنائية لفظية جديدة، فرضت نفسها على النص وهى (إتز تو ليت – إن تايم) بمعنى (متأخر جدًا – فى الوقت المناسب)، حيث تم استخدامها فى أكثر من موقف للدلالة على أن مأساة "عايش" وأسرته، تكمن فى وصولهم دائمًا فى التوقيت الخاطئ، بعد فوات الآوان (إتز تو ليت).
"عايش:  المشكلة يا هانم إنك من عيلة الشفاط، والمشكلة الأكبر إنى عرفتك بعد فوات الآوان فى الاتز توليت، ودبحتينى فى إلان تايم."([31])
كما جاء الحوار متسقًا مع طبيعة الشخصيات، وتطور الموقف الدرامى، وظهر ذلك جليًا من خلال شخصية "عايش".
·  مرحلة الوعى الفعلى:    جاء الحوار مثقلا بالمفردات اللفظية والتعبيرات التى تحمل معانى الخنوع والاستسلام والتبعية المطلقة والرغبة فى التعايش.
"عايش:  أنا حا نزل أجيب جردل علشان أسيق الأرض.
أميرة:   تعالى هنا.. إترزع, (ينفذ عايش فى خوف وأنكسار) أتعلم تسمع الكلام.. ومن هنا ورايح أقول يمين يبقى يمين أقول شمال يبقى شمال.. أقولك تقعد مع أخواتك تقعد أقولك توفقهم مع شومان تنفذ فاهم؟.
عايش:   فاهم يا ست الرجالة."([32])
يبرز الحوار السابق سمات شخصية "عايش" فى هذه المرحلة كشخصية منكسرة، تابعة، منهزمة داخليًا.
·  مرحلة الوعى الممكن:      فيها يخرج الحوار عن حدود الخضوع والاستكانة لتتحدد معالمه فى إطار نقيض تمثله المفردات والجمل الحوارية الآتية:
(غصبن عن عين أهلك عايش – أنا مش حمار – لا مش حآجى معاكوا – لا حاتكلم – اتكلموا يا بتوع حقوق الإنسان – اسمعنى يا عالم – انتبهوا).
ومعظمها يعتمد على صيغ النفى وأساليب الأمر، فى دلالة على عملية التحول فى شخصية "عايش" – فى تلك المرحلة – شخصية ذات إرادة، تعى ذاتها وحقوقها المستلبة.
كما حمل الحوار العديد من الدلالات التى أعانتنا على تتبع تطور شخصية "أميرة كامل" من خلال:
·  مرحلة القناع:  حيث حمل الحوار بالكثير من الجمل والمفردات التى توحى برغبتها فى كسب ود "عايش" واستمالته فاستخدمت عبارات تحمل معانى التعاطف والإشفاق والاستعداد للمساعدة وبث روح الأمل فيه مثل (لازم يكون عندك أمل – أنا بأضعف قدام أى إنسان مظلوم – مش عارفة حاسة ليه إنى أعرفك من زمان – إنت هزتنى – لازم يبقى فيه عدل فيه حب فيه رحمة – إنت ما تستهلش الشفقة أنت تستاهل أن حد يقف جنبك ويحتويك).
·  مرحلة التآمر:  وفيها ينتقل الحوار من طبيعته الناعمة إلى مستوى عدوانى، محمل بجمل ومفردات تنم عن رغبة "أميرة كامل" فى فرض هيمنتها على "عايش" واستلابه أرضًا وعقلا، مثل (حاخلص منه – حاخليه يمشى على إيديه ورجليه – بعد اللى هو فيه حناخد البيت والأرض).
وبذلك تشكل بنية الأقوال فى النص العديد من المعانى والدلالات، التى أسهمت بدورها فى فهم البنية الفكرية للنص وطبيعة شخصياته.
البنية الدلالية الكلية وتماثلها مع النسق الاجتماعى:
يتضح من التحليل السابق لبنيات النص المسرحى "ماما أمريكا" مدى التفاعل القائم بين جزيئاته الداخلية، والتى كشفت عن عدد من المقولات الأساسية المتمثلة فى (التابع – المتبوع – الاستلاب).
حيث تجسد البنية الكلية للنص مفهوم التبعية المقترن باستلاب العقل والأرض، وتحذر من تجاوزاته وتنبىء بأخطاره، وتطالب بمواجهته.
وسيحاول الباحث ربط البنيات الدالة داخل هذا العمل الأدبى بنسق اجتماعى خارج النص، وذلك من خلال الخواص الأساسية للبنية الإبداعية ومدى تمثيلها لرؤية متناسقة للعالم على مستوى المفهوم والصورة اللفظية والمكانية والشخصيات والأحداث. فالرؤية الفكرية للكاتب "مهدى يوسف" – فى عرف البنيوية التوليدية – قد تجاوزت أفق الرؤية الفردية الخاصة بالمؤلف إلى آفاق أكثر اتساعا، متمثلة فى رؤية جماعة اجتماعية محددة مثل طبقة المثقفين اليساريين العرب – التى ينتمى إليها الكاتب، "بوصفه كاتبًا اشتراكيًا".([33]) – لعلاقة العرب بالولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها علاقة قائمة على التبعية، وفرض الهيمنة، وهى رؤية واقعية – من وجهة نظر الباحث- ومغايرة فى الوقت ذاته لرؤية جماعة أخرى، "كطبقة المثقفين اليمينيين، ممن يرون فى أمريكا صورة الأحادية القطبية لعالم الغد والسيد الفعال دائم الحضور فى عملية التحول الرأسمالى العالمى. أو طبقة المثقفين الليبراليين الذين يرون فى أمريكا مثالا حقيقيًا للديمقراطية ودعم الحريات".([34])
ومن خلال دراسة البنية المتكررة من مقولات (التابع – المتبوع – الاستلاب) يمكن الكشف عن التماثل البنيوى بين بنية النص الداخلية، وبنية المجتمع الخارجية باعتبارها بنية أوسع ولدت بنية العمل الأدبى.
فالصراع بين عائلة "عايش شحاتة منافع"، وعائلة "أميرة كامل الشفاط" ما هو إلا صراع بين الدول العربية، سواء الفقيرة المعدمة أو الغنية صاحبة المصالح، كتابع، وبين القوة العظمى الوحيدة فى العالم (أمريكا)، كمتبوع، ذلك الصراع الذى فرض نفسه على الساحة السياسية منذ الحرب العالمية الثانية حتى وقتنا الراهن.
ومن هنا يمثل أفراد عائلة "عايش" تنويعات على أنماط من الدول العربية المختلفة، فعايش يمثل مصر صاحبة الدور الريادى ولم شمل الأخوة العرب، ورعاية مصالحهم، وحمل همومهم.
"عايش:  ضحيت بمستقبلى علشان أصرف على أبوكوا اللى ماحدش فيكم سأل فيه قبل ما يموت. علشانك يا هانم بعد ما رجعتيلى بشنطة هدومك فاضية ومطرودة من بيت جوزك.. علشان خاطر أخوكوا عذاب اللى قافل ورشة نجارته ومستحلى مرضه.. ولا أخوكوا علام اللى كل شوية هات يا عايش هات ياعايش، بعدما اطرد من التدريس لأنه شايف التاريخ كله مزور.. فى الوقت اللى كان فيه عبود وعاشور بيجروا علشان يعبوا كروشهم ويكنزوا، لأنهم مطمنين إن أخوهم عايش الحمار شايل حمل عيلة منافع على كتافه لوحده." ([35])
بينما يمثل "عبود" الأخ الثرى الأنانى الذى ينفق أمواله ببذخ على الراقصات، نموذجًا لبعض دول الخليج العربى الغنية بالبترول، والتى لا ترى ضررًا من التعاون مع أمريكا، وتغليب مصلحتها الذاتية على المصلحة القومية.
"عفاف:  أتكلم يا عبود.. الهانم وصلتلك إزاى علشان تشاركك فى مصنعك.. قال إيه خايفة عليك من أخوك عاشور.
عبود:    ما هو اللى عمل عليا بلطجى، وحاول يسرق البضاعة من ورايا علشان يبيعها ليها.
علام:    أيوة.. كنت بخلص حقى.
عذاب:   وما عرفتش تاخد حقك.. تحرق له مصنعه.
عفاف:   وحرقته بأس مين يا عاشور.. مش أنت برضه وزيته (إلى أميرة كامل) وبكرة تلف وتدور عليك أنت كمان يا عبود وتأكل مصنعك.
عبود:    لا تأكل مين؟ دى بتحمينى وفيه مصالح بينا.. والمصنع بتاعى واليافطة لسه عليها اسمى.
عفاف:   اليافطة بس يا عبود.. يعنى من بره الله الله ومن جوه يعلم الله."([36])
ويمثل "عاشور" (البلطجى) كما يتضح من الحوار السابق، دولة العراق كثانى أكبر قوة عسكرية فى المنطقة العربية، والتى تلوح باستخدام القوة بين الحين والآخر لخدمة مصالحها، ولو على حساب أشقائها – كما حدث فى غزو الكويت – "أما "عذاب" فيمثل الدول الفقيرة التى عانت ويلات الحروب، كما يمثل "علام" مدرس التاريخ الباكى على مجد العرب الضائع فى الأندلس، بلاد المغرب العربى."([37])
"علام:   الخطأ التاريخى يتكرر.. فى الباب الرابع من كتابى واندلوساه.. الدول الكبيرة المستفحلة اللى معاها وما بتديش (بنظرة تحذير) فاهمنى يا عبود؟ حاتدور عليها الدواير وحاتبقى زى الدول اللى راحت فى الباى باى وبقت كحيانة وعدمانة زيك يا عذاب."([38])
وأخيرا تمثل "عفاف"- كما توضح "رانيا فتح الله"- فلسطين. "فعفاف هى الشقيقة التى تود الخلاص من زوج فُرض عليها، ولا تحبه، ولازالت قضية طلاقها منه - ومنذ سنوات عديدة- معلقة فى ساحات المحاكم، للبت فيها، وتعيش "عفاف" حالة من الانتظار العقيم لحكم قد يمنحها حريتها، أو يفقدها إياها إلى الأبد، وترى "رانيا فتح الله" أن ظروف "عفاف" هى الظروف نفسها التى تعيشها فلسطين فى ظل انتظارٍ غير مجدٍ لحل قضيتها، وتخليصها من عدو غاصب فُرض عليها وأفقدها حريتها واستقلالها"([39]).        
ويمكن ملاحظة بداية أسماء الأشقاء الستة بحرف العين، وهو ما يحيلنا إلى تمثيلهم للعرب، وبناء على ما تقدم يمكن اعتبار "تدهور أحوال عائلة "عايش"، ما هو إلا تماثل - ذو دلالة- لتدهور أحوال الدول العربية بعد ضياع الخلافة العثمانية."([40])
كما تمثل "أميرة كامل" فى نص "مهدى يوسف" دولة أمريكا بقوة نفوذها وهيمنتها على الجميع، وقد تجسد هذا التماثل فى النص "حين ركع "عايش" - قبل نهاية المسرحية - أمام "أميرة كامل" ليناديها (ماما أميرة كامل) ثم يتعثر نتيجة حقن الهلوسة التى يتعاطاها، فلا يستطيع إكمال الجملة، فتخرج (ماما أميره كا) لتعكس لب القضية المطروحة فى العمل وهو الخضوع للاستعمار الجديد."([41])
وقد حمل عنوان المسرحية – نفسه – دلالة تتضمن فى طياتها المقولة الأساسية للمسرحية. فأمريكا هى الأم التى قد تحنو تارة على صغارها عندما يكونون أطفالا طائعين، ممتثلين لأوامرها، أو تلقى باللوم والتوبيخ تارة ثانية، عندما يشذ أحد أطفالها عن الطريق القويم الذى رسمته له، أو يخالف أحد تعاليمها التى لقنتها إياه، وقد تقسو تارة ثالثة، فتصفع طفلها إذا تجرأ عليها أو انتقدها، أو رفض وصايتها لإحساسه بذاته، وبأنه قد بلغ سن الرشد فتعاقبه بدافع حنان الأمومة، وباعتبارها أكثر الناس حرصًا على مصلحته.
كما يمكن إيجاد تماثل بنيوى – ذو دلالة- على مستوى الأحداث بين زواج "أميرة كامل" من "عايش" وبين الرغبة الأمريكية فى إقامة شهر عسل دائم مع مصر، لدورها القيادى فى المنطقة، بتوجيهات اسرائيلية يمثلها فى نص "ماما أمريكا"، "شومان الشفاط".
"علام:   المؤامرة الكبرى تتكرر – المغول دخلوا مصر يوم ما أيبك دخل على شجرة الدر".([42])
"ويحذر النص من أشهر العسل العربى الأمريكى الذى استيقظ منه عايش ليجد أمامه (ماما أمريكا) أو "أميرة كامل" وقد ارتدت الزى العسكرى وسط حراسها، وتمسك بالكرباج لتأمره بما يجب عمله."([43])
وقد أبرز النص من خلال الحدث السابق، وما تلاه من أحداث الخطط الأمريكية لفرض الهيمنة والتبعية على دول المنطقة العربية، واستخدام القوة بمظاهرها المختلفة منها التلويح بالعقاب.
"أميرة:   حاترتب السرير يا عايش.
عايش:   (يلقى بغطاء السرير على الأرض) مش حارتب السرير.
أميرة:   إيه ده إنت بتعاندنى؟
عايش:   أيوه بعاندك (يدق جرس التليفون) روحى ردى على التليفون.. كل يوم من ده إيه رأيك؟
أميرة:   ألو.. أيوة أنا أميرة فيه إيه؟.. يعنى إيه الراجل ده مش عايز يبيع؟.. خلاص ما أنت عارف اللى بيعند معايا بيحصله إيه؟ مدام عند.. اقتلوه... أيوه وارموا جثته فى النيل ولا فى أى خرابة."([44])
بعدها ينتفض "عايش" فى حركة سريعة، ويقوم بترتيب السرير فى همة ونشاط. كما يتعرض النص لمظهر آخر من مظاهر فرض الهيمنة متمثلا فى المعونات الأمريكية المذلة المشروطة، التى تغدق بها أمريكا على مصر، والتى تمثل فى شكلها الخارجى مساندة محمودة، ولكنها فى داخلها، تدخلا سافرًا فى شئون مصر، حيث تستغلها أمريكا كعقاب لمصر على مواقفها العدائية سواء فى سياستها الداخلية أو الخارجية، مما يولد الشعور بالذل والمهانة نتيجة الحط من كرامة المصرى، ووضعه فى مقام المتسول.
"أميرة:   إمسك أدى شيك بأربعين ألف جنية يسدد الرهنية.. وأعملى عقد إيجار نقول تلات سنين.
عايش:   أيوة.. بس ده مبلغ كبير.. أنا مش مصدق.
أميرة:   مش عايزاك تنهزم وتضيع فى الرجلين وأنا لازم أبقى جنبك.
عايش:   أنا فعلا أنا وولادى كنا مستنيين معجزة وإنتى حققتيها لى."([45])
كما تطرق النص إلى محاولات أمريكا فرض التبعية والهيمنة من خلال طمس الهوية، ومحاولات استلاب الأرض والعقل. وهو ما عبر عنه "ألبرت بفريدج" Albert Beveridge الذى سرعان ما انتخب لعضوية مجلس الشيوخ حين قال "إن الأمريكيين هم الجنس الغازى، وعلينا أن نمتثل لما تمليه علينا دماؤنا.. فنحتل أسواقًا جديدة وأراضى جديدة أيضًا إذا لزم الأمر لأن غاية الله النهائية، تتمثل فى حتمية اختفاء الحضارات المنهارة والأجناس الضعيفة أمام حضارة أمريكا العظمى."([46]) فأميرة كامل، ليست سوى صورة لممارسات القطب الأوحد بهويته ومرجعيته، محاولا فرض استراتيجيته التى تقوم على محو الآخر وإلغائه، ومحاربة مقوماته الحضارية وطمسها، ليحيل العالم إلى دائرة مغلقة، ممكن من خلالها استلاب العقل الإنسانى، أو تفكيك بنيته الثقافية، وأنظمته الفكرية لصالح حضارة واحدة هى حضارة الأقوى، فالجميع يعلم أن الإنسان العربى صلب التكوين النفسى لأنه محمل بإرث استعمارى عمره آلاف السنين، وله ذكريات عن أزمان المجد، والعراقة الحقيقية، وعن حضاراته التى قدمت للإنسانية الكثير، ولاشك أن هذه الخلفية التاريخية والذاكرة الجمعية للعربى تملأ وعى المستعمر بالقلق من بعث جديد يعيد للأمة العربية أمجادها الغابرة.
وقد تأكد هذا المعنى فى النص من خلال التحول فى العلامات المكانية من منزل عائلة "عايش" ذو الملامح العربية الأصيلة إلى مقر مؤسسة حماية حقوق الحمير الأمريكية، ذات الملامح العصرية الغربية.
كما يجب ألا نغفل دلالة اسم المؤسسة "والتى تولدت عن حقيقة اجتماعية تتمثل "فى رغبة أمريكا فى أن تحول العالم إلى قطيع يسير خلف من يحمل القمح (البرسيم)".([47])
"أميرة:   المؤسسة فى أمريكا وضعت القوانين والتشريعات المنظمة لحقوق الحمير فى العالم كله."([48])
كما يقدم النص شخصية "علام" مدرس التاريخ الغائب عن الوعى بفعل المخدرات، كنموذج مماثل لضحية المؤامرات الأمريكية، ومحاولاتها المستمرة لتغييب العقل العربى، وضرورة فصله عن قضيته الأساسية المتعلقة بالأرض والحريات، فعندما يعيش الإنسان فى ظل قهر أعمى، وديكتاتورية هوجاء، يصبح حتى عقله معتقلاً سجينًا لبطش هذا القهر، وهذه الديكتاتورية، ويوضع تحت الوصايا، حيث تملى عليه آراؤه، وأفكاره.
"أميرة:   عاملى لى مناحة على الأندلس اللى راحت.
علام:    حضرتك قريتى الكتاب كويس؟!
أميرة:   طبعا قريته وفهمته أنا مش جاهلة يا علام.. أنت عامل علاقة بين الأندلس والنظام العالمى الجديد.... الكلام ده أنا مش حاطبعه.. أنا عايزاك تبحث فى معضلات تاريخية تهم الناس.
علام:    زى إيه؟
أميرة:   عندك مثلا.. فيه خلاف تاريخى عايزاك تحسمه.. هل باب القلعة لماجم يركبوه... ركبوه عدل ولا مقلوب؟."([49])
ويتضمن النص خطابًا مماثلا للحالة العربية الراهنة، يتأملها ويعيد النظر فى عوامل الضعف فيها، فنحن أمة مختطفة عاجزة مكلومة فى تاريخها وشرفها وكرامتها، وصلت إلى حالة من التداعى والهوان فى ظل حالة الفرقة والتشرذم العربى، وغياب القومية العربية، وقد تجسدت هذه المعانى من خلال التفسخ الاجتماعى بين أفراد عائلة "منافع" وخلافاتهم المستمرة، وقد تم تأكيد هذه الدلالة من خلال علامة مادية تمثلت فى حطام (العربية)، وقد وضعه الأخوة فى منتصف المسرح وهم فى حالة بكاء، بعد إحتراقها وقد ارتبطت تلك العلامة المرئية بعلامة سمعية لتأكيد الدلالة التعبيرية، وذلك من خلال تعليق "علام" الساخر على ضياع القومية العربية.
"علام:  وإيه يعنى العربية ضاعت (يخرج مهزوما) ما القومية قبلها ضاعت والأندلس ضاعت..          
         والقدس ضاعت.. كله ضاع."([50])
كما يعطى النص أبعادًا لقضية تبدو لأول وهلة بسيطة إلا أن أعماقها ورموزها تمتد لمشكلة فلسطين، وحق العرب الفلسطيني فى أراضيهم المحتلة، حيث تمثل شخصية "شومان" الطرف الإسرائيلى الذى اغتصب أراضى عائلة "منافع"، ويحيلنا مشهد تسوية النزاع بينه وبين الأشقاء الستة حول الأرض، لقضية تقسيم فلسطين.
"علام:   إحنا مش عايزين غير كلمة واحدة وبعدين نتناقش... الأرض دى بتاعتك؟
شومان: إحنا كدة دخلنا فى طريق مسدود... أنا عاوز سنتين تلاتة علشان أفكر فى سؤالك ده.
عبود:    يبقى أنت بقى مش عاوز تحلها ودى... بينا يا جماعة.
شومان: طب علشان مايبقاش أنا اللى معرقبها... حاديكم تلاتين فدان ليكم كلكم وده آخر كلام.
عفاف:   مش قتلتكم ده كلب ولا يسوى... بينا يا جماعة.
عاشور: استنوا بس لما نشوف عاوز يوصل لأيه؟ كمل.
شومان: اقتنعتم...... بالعشرين فدان؟
عاشور: لا يمكن... أنت قلت من شوية بعضمة لسانك تلاتين فدان...
عبود:    جرى إيه يا عاشور... أنت أتجننت؟ بتأمن له على التلاتين فدان؟!
شومان: طب استنوا حاديكم خمسين فدان ليكم كلكم... عشرة فى الأول وبعدين نقعد نماطل فى الأربعين." ([51])
إن التماثل بين البنيتين الإبداعية والاجتماعية هنا تتجسد فى المحتوى الفكرى والدلالى والذى يشكل نسقًا اجتماعيًا يتمثل فى المماطلة الإسرائيلية بشأن استرجاع الأراضي الفلسطينية المغتصبة ومشروع تقسيم فلسطين، الذى بدأ مع "تصويت الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة عام 1947، على القرار رقم 181 الذى طرح خطة لتقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والثانية فلسطينية، أما القدس فتصبح منطقة دولية، وإذا كان هذا المشروع يتلاءم ومنظورهم الخاص، فقد رحب به اليهود فى حين رفضه الفلسطينيون رفضًا باتًا." ([52])
كما يحيلنا النص إلى "الفكرة العالمية التى جرى التبجح بها كثيرًا حول الحرية والعدالة والديمقراطية، والتى تمارسها أمريكا بطرائق مختلفة تبعدها عن مفهومها الحقيقى، لتصب فى مصلحتها الذاتية، وقد تولدت عن التعريف الخاطئ لهذه القيم، بنية إبداعية فى النص تمثلت فى المشهد الأخير الذى يتحطم فيه تمثال الحرية، فى دلالة تعبيرية على انعدام الحرية فى معاقلها، حيث يصبح تحطيم الجزء الأعلى من تمثال الحرية، معادلا تشكيليًا لفكرة الحرية المنقوصة المغلفة بالأفكار المضللة عن البراءة والصلاح والفضيلة والتى تولد نوعا من الإحباط واليأس، وشعورًا بالكره والعداء يقود فى النهاية إلى الخاتمة المحتومة المتمثلة فى استخدام العنف والإرهاب.
ويمكن إجمال حالات التماثل بين البنية الداخلية للنص، وبنية المجتمع الخارجية، من خلال الجدول الآتي:


بنية النص الداخلية
بنية المجتمع الخارجية
التابع
الحكام العرب، الذين أرهقتهم الخلافات، وطمعتهم المعونات الأمريكية، فباتوا فى مستنقع الذل والهوان، بأن أعطوا لأمريكا الضوء الأخضر للتدخل فى شئونهم، وفرض هيمنتها عليهم، نتيجة ضعفهم، وتفرقهم، وقلة حيلتهم فى حل مشاكلهم، وسعى بعضهم إلى تحقيق مكتسبات ذاتية على حساب القومية العربية.
المتبوع
أمريكا، القطب الأوحد المهيمن على العالم فى وقتنا الرهن، باعتبارها الإمبراطورية الملهمة التى توسمت فى نفسها أهلية الدور العالمى، وقيادة حركة التقدم برفع لواء الحرية وقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
الاستلاب
المطامع الأمريكية الممتدة المشمولة بشهوة الاستحواذ وآليات التسلط، والمتمثلة فى محورين من محاور الاستلاب: استلاب الأرض، واستلاب العقل.
• استلاب الأرض: بالتدخل العسكرى بحجة تدعيم الديمقراطية، وحماية الحريات ومحاربة النظم السياسة الديكتاتورية فى المنطقة العربية، أو تدعيمها لإسرائيل ومساعدتها فى اغتصاب الأراضى الفلسطينية.
• استلاب العقل: وهو أنكى من استلاب الأرض لأنه ربما يجعله مبررًا، وحقًا مشروعًا، ويتم عن طريق طمس هوية الآخر، وفرض الثقافة الأمريكية بوصفها ثورة تصحيحية لمسارات الفكر وتيارات الوعى.
ونتيجة التناقض بين ثنائية التابع والمتبوع فى النص يتم إزاحة الوعى الفعلى (السلبى) لعايش وأخوته ليتولد وعي جديد (الوعى الممكن) متمثلا فى إرادة المواجهة، بعد سقوط الأقنعة، وكشف الحقائق، ويقدم النص ذلك الوعى الممكن كرؤية مستقبلية للعالم، فالعرب قد فهموا اللعبة، فهم يعرفون من يدعم إسرائيل بالسلاح، ومن يكسر الإرادات وينهب الموارد ويهدد بالتدخل ويلوح بالعقوبات وتبقى إرادة المواجهة، هذه الإرادة المتذبذبة المرتعشة، التى هى فى الواقع صورة من صور التخلف والتمزق فى المجتمع العربى المعاصر، ويقدمها النص كحل مثالى مقترن بلم الشمل، ونبذ الخلافات والوصول إلى وفاق عربى، للتصدى للغطرسة الأمريكية، وتهديداتها لاستقلال العرب وحريتهم.
 لقد قدم الباحث فى هذا الفصل صورة للشعارات المزيفة التى ترفعها أمريكا حول الحرية والديمقراطية، وذلك من خلال نص "ماما أمريكا" للكاتب "مهدى يوسف" الذى كشف القناع عن الوجه الحقيقى لأمريكا فى تعاملها مع العرب، بوصفهم تابع لها، وأوضح فشل أمريكا فى إعلاء شأن الحرية وتدعيمها فى المحيط العربى، بما يتناقض مع ادعاءاتها الزائفة.
 "وفى هذا النص يبرز دور المسرح ليس فى عكس الواقع المعيش فحسب، ولكن فى رؤيته المستقبلية لما قد يصادفنا من أزمات، فقد دق النص ناقوس خطر مبكر، وأنذر بعاقبة تجاوزات السياسة الأمريكية، وقد صدق حدس الكاتب الذى جاء متماثلا مع حادث نسف برجى التجارة العالمية فى 11 سبتمبر عام 2001." ([53])



([1])  جلال أمين: عولمة القهر، الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد احداث سبتمبر 2001، دار الشروق، القاهرة، 2002، ص18.
([2]مهدى يوسف: ماما أمريكا، فكرة: محمد صبحى، المركز المصرى العربى للتصميمات الفنية والطباعة، القاهرة، 1995، ص ص45، 46.
([3]المصدر السابق، ص48.
([4]المصدر السابق، ص49.
([5]المصدر السابق، ص84.
([6]المصدر السابق، ص70، 71.
([7]المصدر السابق، ص90.
([8]المصدر السابق، ص101.
([9]المصدر السابق، ص115.
([10]) المصدر السابق، ص115، ص116.
([11]) المصدر السابق، ص143.
([12]) المصدر السابق، ص145.
([13]) المصدر السابق، ص149.
([14]) سعيد شعيب: رغم ركوع الجميع، محمد صبحى يطلق النار على أمريكا، (مقال) منقول عن، المسرح المصرى 1995، 1996، وزارة الثقافة، المركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، القاهرة، 1997، ص280.
([15]) مهدى يوسف: مصدر سبق ذكره، ص72.
([16]) المصدر السابق، ص44.
([17]) المصدر السابق، ص49.
([18]) مدحت أبو بكر: المسرح يطالب بالتجمع العربى لمواجهة ملاعيب ماما أمريكا، (مقال) منقول عن المسرح المصرى 1995، 1996، وزارة الثقافة، المركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، القاهرة، 1997، ص282.
([19]) مهدى يوسف: مصدر سبق ذكره، ص151.
([20]) المصدر السابق، ص30.
([21]) المصدر السابق، ص93.
([22]) المصدر السابق، ص126.
([23]) المصدر السابق، ص146.
([24]) المصدر السابق، ص30.
([25]) ألفت عبد الحميد حسانين شافع: النص المسرحى بين اللغة والميتالغة، دراسة تحليلية فى جذرية الضرورة النصية للمسرح المعاصر، رسالة ماجستير، غير منشورة، جامعة الإسكندرية، كلية الآداب، 2010، ص 138.
([26]) مهدى يوسف: مصدر سبق ذكره، ص61-62.
([27]) سعيد شعيب: مرجع سبق ذكره، ص280.
([28]) نهاد صليحة: الحرية والمسرح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص15.
([29]) مهدى يوسف: مصدر سبق ذكره، ص148.
([30]) عصام الدين أبو العلا: المسرحية العربية، الحقيقة التاريخية والزيف الفنى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994، ص76.
([31]) مهدى يوسف: مصدر سبق ذكره، ص88.
([32]) المصدر السابق، ص133.
([33]) عمرو دوارة: مهدى يوسف يتحدى ماما أمريكا.
http://www. Masress. com
([34]) أنظر: أنا تولى أوتكين: الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادى والعشرين، ترجمة: أنور محمد إبراهيم، محمد نصر الدين الجبالى، مطابع المجلس الأعلى للآثار، القاهرة، 2003، ص22-24.
([35]) مهدى يوسف: مصدر سبق ذكره، ص56.
([36]) المصدر السابق، ص144.
([37]) مسرحية "ماما أمريكا" : موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية.
http:// www.wikipedia.com
([38]) مهدى يوسف: مصدر سبق ذكره، ص36.
([39]) حوار أجراه الباحث مع السيدة الدكتورة "رانيا فتح الله" (أستاذ مساعد التمثيل والإخراج) بقسم الدراسات المسرحية، والتى شاركت فى بطولة مسرحية "ماما أمريكا" بأدائها لشخصية (عفاف). تاريخ الحوار: 25/3/2012.
([40]) انظر: مسرحية "ماما أمريكا" : موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية، مرجع سبق ذكره.
([41]) عبد الخالق صبحى: ماما أمريكا.. دمعتان وابتسامة، (جريدة الأهرام المسائى)، العدد 1511، مطابع الأهرام، القاهرة، 1995، ص1.
([42]) مهدى يوسف: مصدر سبق ذكره، ص132.
([43]) هشام لاشين: ماما أمريكا أخطر مسرحية سياسية فى التاريخ المعاصر، (مقال منقول عن) المسرح المصرى 1995/1996، وزارة الثقافة المركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، القاهرة، 1997، ص296-297.
([44]) مهدى يوسف: مصدر سبق ذكره، ص133.
([45]) المصدر السابق، ص87.
([46]) ج. ويليام فولبرايت: غطرسة القوة، ثمن الإمبراطورية، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، الأهرام، القاهرة، 1994، ص47.
([47]) مدحت أبو بكر: مرجع سبق ذكره، ص281.
([48]) مهدى يوسف: مصدر سبق ذكره، ص85.
([49]) المصدر السابق، ص102.
([50]) المصدر السابق، ص74.
([51]) المصدر السابق، ص106.
([52]) أورى وزولى: مرجع سبق ذكره، ص37.
([53]) حوار تليفزيونى بين "حسن المستكاوى" والفنان "محمد صبحى"، برنامج "صالون المستكاوى" قناة مودرن سبورت، بتاريخ 23/1/2011.