الاثنين، 28 مارس 2011

عفوا أيها الأجداد...علينا السلام- فانتازيا المسرح المصرى بين الارهاب المغلف بدعاوى السلام ومحاولات طمس الهوية العربية


لا شك أن مسألة الحرب والسلام من القضايا المهمة التى تشغل حيزاً ليس بقليل فى عقولنا جميعاً خاصة وأن الصراعات المتلاحقة ، والمنعطفات السياسية الخطرة الأخيرة تدعونا إلى طرح عدة أسئلة جوهرية حول وضعنا العربى الراهن ، والتفكير حول ماهية المستقبل ، انطلاقاً من المناخ السائد محلياً وعالمياً فى ظل الهيمنة الأمريكية على العالم العربى . وقد استحوذ الواقع العربى المتشظى على وعى الكثير من كتاب المسرح ، فقدموا نصوصاً تحمل رؤى سياسية نقدية تدين بقوة الخنوع العربى فى مواجهة الغطرسة الأمريكية، وتزيح الستار عن الإستراتيجية الأمريكية الصهيونية ، ومحاولاتها المستمرة للسيطرة على دول العالم الثالث بدعوى الصداقة والحماية والسلام .
والسلام فى نص " عفواً أيها الأجداد .. علينا السلام " يتخذ معنى مغاير للمعنى التقليدى المتعارف عليه ، فالمسرحية تتناول سلام القوة ، وفقا لمبدأ التصالح الضعيف الذى تقوم عليه العلاقة بين أمريكا والعرب، وذلك من خلال حدوتة خيالية تدور أحداثها فى دولة "سلامستان" ، وهى دولة وهمية ابتكرها خيال الكاتب "نبيل بدران " لينسج خلالها خيوط الإسقاط السياسى لواقعنا المعيش ، و " ستان" فى اللغة تعنى موطن فنقول عربستان أى موطن العرب وأفغانستان أى موطن الأفغان ، وكذلك سلامستان هى موطن السلام " .
وتنطلق وقائع الحدث الدرامى لهذا النص داخل الإدارة العامة للتحقيقات فى دولة سلامستان، حيث نرى المحقق العام ، وقد شغل بمراجعة بعض الأوراق الخاصة بإحدى قضايا أمن الدولة .

" المساعد : كل شيء هادئ فى سلامستان .

المحقق العام : الأسماء تغيرت ؟

المساعد : شارع الحرب أصبح شارع السلام .

المحقق العام : وساحة الجهاد ؟

المساعد : أصبحت ساحة الحياد .

المحقق العام : وكلية الحقوق ؟

المساعد : صارت كلية الواجبات .

المحقق العام : وصالات التدريب على السلاح ؟

المساعد : الرقص فيها مباح حتى الصباح .

المحقق العام : ونصب الجندى المجهول ؟

المساعد : أسميناه الحبيب المجهول .. كل شيء هادئ فى
سلامستان ."

ولكن الرياح تأتى أحياناً بما لا تشتهى السفن ، فهناك من يكدر صفو " سلامستان " ويعبث بأمنها وسلامتها ـ حسب أعراف وتقاليد الأنظمة المستبدة ـ ففى أحد سجون سلامستان يقبع شخص يدعى " حرب جبار كاظم غيظه " بتهمة هى الأغرب من نوعها ، فلم تكن جريمة "حرب" ، قتل ، أو سطو مسلح ، أو حتى سرقة ، فجريمة "حرب" لم تكن سوى اسمه . ففى ظل نظام يدعو إلى السلام العادل الشامل ، ويسعى بكل ما أوتى من قوة إلى مجابهة الإرهاب والقضاء عليه ، يصبح اسم " حرب " من الممنوعات ، بل جريمة تخل بالأمن العام، وتزلزل كيان الدولة وسلامتها .

" المحقق العام : أنت حرب جبار كاظم غيظه ؟

حرب : نعم .

المحقق العام : معترف ؟

حرب : (مندهشاً ) بماذا ؟

المحقق العام : بأنك حرب .

حرب : اسمى مثل جلدى .. كيف أهرب منه ؟

المساعد : ( وهو يكتب ) واعترف دون تعذيب .

المحقق العام : والدك جبار ؟

حرب : الله يعطيه العافية .

المساعد : ( وهو يكتب ) وواصل اعترافاته .

المحقق العام : وجدك كاظم غيظه ؟

حرب : الفاتحة على روحه ؟

المحقق العام : (غاضباً ) لعنة الله عليه .. لماذا كان كاظماً غيظه؟

حرب : اسألوه .. هذا عنوانه فى المقابر .

المساعد : حاقد من يكظم غيظه "

وتستمر التحقيقات فى إطار من المشروعية الاستفزازية . وفى ظل محاولات النظام لفرض السلام الجبرى على مواطنى سلامستان ، والضرب بيد من حديد على كل من يحاول العبث بأمن البلاد ، واستخدام كافة الإجراءات التعسفية التى تبلغ فى شدتها درجة القهر والإرهاب يتم إجبار " حرب جبار كاظم غيظه " على تغيير اسمه إلى " مسالم قانع بالع غيظه" ، كما يجبر " منصور رافع سيفه " ( زميل حرب فى الزنزانة المجاورة ) على تغيير اسمه هو الآخر ، بحيث يتماشى مع السياسة العامة للنظام الجديد ، فيصبح " مهزوم راهن سيفه " .

" المحقق العام : محظور اسم منصور .. اختر ما تشاء من هذه
الأسماء .

المساعد : ( يقرأ من ورقة ) مقهور .. مزعور .. مدحور ..
مجرور .. مكسور ..

المحقق العام : وبدلاً من رافع سيفه اختار ما تشاء من هذه
الأسماء .

المساعد : ( يقرأ من ورقة ) خافض سيفه .. كاسر سيفه ..
بايع سيفه .. راهن سيفه .

حرب : الرهن أحسن من البيع . "

كما تأمر إدارة التحقيقات " منصور رافع سيفه " (سابقاً ) بتسليم سيف العائلة المرفوع لتضمه إلى مجموعة السيوف التى أودعتها متحف " سلامستان " بعد أن جردت البلاد من أسلحتها ، وحظرت فيها بيع السيوف ، وعبثاً يحاول "منصور " إقناع المحقق العام بأن سيف عائلته مجرد اسم ، فهو سيف على الورق ، لا يقتل ولا يخدش ، ولكنه تعنت النظام ، وسياسته المستبدة تحولان دون ذلك .
ويمثل "منصور" للأمر الواقع ويبدأ رحلة البحث عن السيف المزعوم ويدله "والد حرب" على أقدم بائع سيوف بدولة "سلامستان" عسى أن يجد عنده ضالته المنشودة ، ويذهب إليه "منصور" بصحبة حرب وزوجته ، وقد تخفى الجميع خوفاً من بطش السلطة ، وهناك تكون المفاجأة ، فقد حول "فارس ضرغام" (سابقاً) ، و"تابع سامع الكلام" (حالياً) دكانه من محل لبيع السيوف إلى محل لبيع زينة النساء وبعد حوار طويل جمع بين "منصور" و"حرب" وزوجته من ناحية ، وصاحب الدكان من ناحية أخرى يعترف الأخير بامتلاكه لسيف وحيد ورثه عن جده، سيف يعلوه الصدأ ، سلاح منقرض ، استخدمته أقوام كانت تغضب لهتك العرض وتثور لسفك الأرض، كانت لا ترضى بالقهر ولا بالعهر ، كانوا يموتون وأيديهم على السيوف قابضة ، يرفضون تسليمها حتى بعد الموت ، وعلى الرغم من اعتزاز صاحب الدكان بهذا السيف وحرصه على إخفائه سنيناً طويلة عن أعين النظام لا يتأخر عن تسليمه لمنصور ظناً منه أنه الفارس الضرغام الجديد الذى سيعيد للبلاد كرامتها فيغمده فى قلب وغد ، أو يعيد به حقاً مسلوباً أو يصد به غازياً ، أو ينشر به عدلاً . ولكن أمام الحقيقة المخجلة ، وبعد أن يتأكد صاحب الدكان من أن مكان هذا السيف العزيز لم يكن سوى أحد الأرفف المتربة فى المتحف السلامستانى العتيق ، يرفض تسليمه إياه ، وفى تلك اللحظة ينقض المحقق العام على صاحب الدكان ، وتقوم مجموعة من الحرس بتقييده لينتهى الفصل الأول بمصادرة السيف وضمه للمتحف .
وفى ظل الممارسات القمعية ، والقهر السلطوى ، وغياب الديمقراطية كان لابد من بناء تنظيم ثورى سرى يهدف إلى مقاومة النظام الفاسد ، ومواجهة ضغط أجهزة الاستخبارات المفسدة ، والعمل على استرداد كرامة شعب "سلامستان" . ففى بيت صاحب الدكان نرى مجموعة تضم " حرب " و "منصور" ومعهم بعض الفتيان يتدربون على فنون القتال ، ويتبارزون بسيوف خشبية ، بينما يتنقل بينهم صاحب الدكان موجهاً ومشجعاً .

" صاحب الدكان : بعد أسبوعين ستغلب رجلين .

منصور : بسيف خشبى ؟

صاحب الدكان : لو أحرقوا السيوف الخشبية .. سأدربكم بسيوف ورقية .. المهم
ألا ننسى شكل السيف .

حرب : لا يعرف الخوف من عنده سيف .

صاحب الدكان : أخشى أن يجىء يوم تسأل فيه تلاميذك .. فيم كانت تستخدم
السيوف ؟ فيردون .. فى تقطيع البصل .

حرب : وددت لو تعلموا لغة السيف .

صاحب الدكان : هذه ليست صنعة .. بل متعة .. عندما يحل الظلام أرسل تلاميذك
خلف الدكان .

الفتى : الجهاز العجيب (مقلداً الجهاز ) مريب .. مريب يضعف بصره فى
الليل (ثم ملوحا بالسيف الخشبى ) ولا يميز الخشب .. يكشف فقط
المعادن ".

ولم يصدق حدس الفتى ، حيث استطاعت إدارة التحقيقات بما لديها من إمكانيات تكنولوجية، وأجهزة تصنت عالية المستوى من التنبؤ بتكوين تلك التنظيمات والكشف عن الخلايا السرية قبل أن تستيقظ ، ومن ثم تتم مداهمة أوكار المقاومة ، والقبض على جميع أفرادها وتقديمهم للمحاكمة ، ويستميت المحقق العام لإلصاق التهم بحرب ومنصور لدرجة أنه يأتى بجهاز كومبيوتر متطور (إنسان آلى ) ليكشف عن انتمائهما السياسى ويخطف حرب أحد السيوف الخشبية وينهال ضرباً على الجهاز حتى ينكسر السيف الخشبى.

" الحارس : (لصاحب الدكان) عدت لتجارة السيوف ؟

الفتى : (ملوحاً بسيفه الخشبى) نلهو بها أم أن اللعب أيضا ممنوع ؟

الحارس : ( للجهاز ) صوره بالسيف .

الجهاز : صورت البيت كله أتريد صورة مكبرة للحى ؟

الحارس : يكفى البيت الآن .

الجهاز : بالداخل طفل يلعب ... يلعب

الحارس : يلعب بأمه ؟

صاحب الدكان : ابنى الأصغر .

الحارس : يلعب بماذا ؟ (يرسل الجهاز إشارات حمراء متقطعة )

الجهاز : يلعب بسلاح .. بسلاح .

الحارس : سلم سلاحك .. سلم سلاحك . "

وتمشياً مع روح الفانتازيا المسيطرة على النص جاء المشهد فى قاعة المحكمة غريباً ، حيث نرى مواطنين شرفاء حريصين على الدفاع عن وطنهم ، وعن أمنهم الذى سُلب منهم تحت دعاوى السلام الزائفة نراهم خلف القضبان ، وقد أُلصقت لهم تهماً هى الأقرب إلى العبث فيتهم " غالب كاظم غيظه" (ابن عم حرب ) بتهمة تزييف الأسماء ، حيث تمسك باسمه الحقيقى رافضا الاسم الذى نعته به النظام حفاظاً على أمن البلد وسلامتها ، ولم تكن تلك تهمته الوحيدة، بل هناك الأفظع من ذلك فقد ظهرت حمامتين مذبوحتين فوق مائدة طعامه .

" المحقق العام : ممنوع أكل الحمام .

ابن العم : يسيل لعابى كلما رأيت حمامة .. فما بالكم بحمامتين دخلتا بيتنا طائعتين
راضيتين ؟

المحقق العام : ودخلتا بطنك طائعتين راضيتين ؟

ابن العم : نادتنى معدتى فلبيت النداء (ثم متلمظاً) ألذ طعام .. الحمام ..

المساعد : الحمام رمز السلام .

المحقق العام : علم البلاد تزينه حمامة ..

المساعد : خاتم الدولة على شكل حمامة

المحقق العام : من يأكل الحمام كأنه يأكل الوطن

حرب : أكل الوطن مهمة الأعداء .. يؤدونها على خير وجه

المساعد : من يذبح الحمام يعبر عن رغبة مكبوتة فى ذبح دعاة السلام ."

ويطالب المساعد بأقصى عقوبة لسفاح الحمام ، عدو السلام، ليكون عبرة لغيره ، بل ويطلب من الحضور الوقوف دقيقة حداد على الحمامتين الشهيدتين ، وبالفعل يقف المحقق العام مع المساعدين والحاضرين ، ثم يجلسون وهم يجففون دموعاً وهمية من شدة التأثر .
وتقرر المحكمة توقيع عقوبة السجن مدى الحياة على قاتل الحمام وصرف معاش يومى كيساً من الحبوب للحمامة اليتيمة التى افقدها المجرم والديها وهى فى عمر الزهور .
أما المتهم الثانى فهو "تابع سامع الكلام " صاحب دكان زينة النساء ، فعلى الرغم من اتباعه للأوامر ، وسماعه للكلام ، إلا أن أحد الشهود قد لاحظ على ولده الأصغر بوادر انحراف فهو يهوى حمل السلاح ، ويريد أن يكون فدائياً ، ويقدم الشاهد للمحكمة دليل إدانة ذلك الفتى فيخرج من علبة ورقية مدفع رشاش مائى .

"صاحب الدكان : ابنى برئ

المحقق العام : أتنكر أنه مدفع رشاش ؟

صاحب الدكان : اعترف بأنه رشاش (ويضغط على أحد الأزرار فينطلق الماء من فوهة
المدفع ) رشاش ماء يرش به الحديقة .. يسقى زهورنا .

المساعد : يعيد للأذهان قاذفات اللهب والحروب التى أكلتنا كالحطب

المحقق العام : كل اللعب التى على هيئة سلاح أحرقناها فى الميادين العامة

المساعد : لم يحرق مدفع ابنه .. التهمة ثابتة ."

وتصدر المحكمة قرارها بعزل الابن الأصغر قبل أن يفسد أطفال الدولة بميوله الإجرامية، كما تحكم بالسجن على صاحب الدكان وولده الأكبر لاتهامهما بالتستر على المجرمين وتدريب الفدائيين على سلاح ممنوع . ويتقدم للمحاكمة "حرب جبار كاظم غيظه " (مدرس التاريخ ) ، وجريمته هذه المرة تتلخص فى كونه يلقن تلاميذه معلومات غير صحيحة ، حيث افترى ـ من وجهة نظرهم ـ على البطل العربى صلاح الدين الأيوبى ، فنسب إليه انتصار كاذب فى موقعة حطين ، كما غير مجريات التاريخ ، وتلاعب بأحداثه فنصر قطز على المغول فى عين جالوت ، وليس هذا فحسب بل تجرأ، وبات يذكر تلاميذه بأمجاد أجدادهم القدماء ليأخذوا عنهم العزيمة ، وقوة الإرادة ، وليلعنوا زمانهم الذى يتكلم فيه الجبن بألف لسان . إن جريمة حرب هذه المرة هى الخروج عن النص ، حيث تم حذف كل هذه المعلومات من المقررات الدراسية ، ومُنع ترديدها داخل المدارس ، لذا تقرر المحكمة إبعاده عن مهنة التدريس بل عن سلامستان كلها لمدة عام ، وتعريض كل من يعمل على تشغيله أو إيوائه للمساءلة .
وفى ختام سلسلة الجرائم الفانتازية تأتى جريمة " مذعور راهن سيفه " المتهم بإثارة الذعر بين الناس ، والتحرش ببعض الضيوف الأجانب لا لشيء سوى لأنهم قرروا الاستيلاء على منزله بحجة أن لهم فيه ذكريات خاصة فترة تواجدهم فى هذه البلاد فى الماضى .

"الأجنبى : سأشتريه .

منصور : لست للبيع .

الأجنبى : البيت ..

منصور : (غير مصدق ) بيتى ؟

المساعد : كانا فيه قبلك .

منصور : كانا مستأجرين .. وليسا مالكين .. لن أبيع .

المحقق العام : ستبيع .. ليست هذه أخلاق سلامستان ."

ويأتى قرار المحكمة متوافقاً مع غرابة القضية ، فتصدر حكماً بتسليم البيت للأجانب ، وتدبير مكان آخر لمنصور وعائلته ، بما يتوافق مع الوصايا الأربعة التى يرتكز عليها قانون سلامستان .

• كن لطيفاً وأفتح بيتك للغريب .
• كن عفيفاً وأترك أرضك دون عراك .
• لا تكن سخيفاً وتطالب بحق سليب .
• من يلعن أباك در له قفاك .

لقد نجح الكاتب فى تحويل الواقع العربى الراهن إلى درب من الخيال ، وقولبته فى قالب فانتازى يتخطى حدود الزمان والمكان فى إسقاطات رمزية تجسد هموم الوطن المعاصرة ، وذلك من خلال طرحه لعدة رؤى سياسية تلتقى مع تطور الأحداث ، وتصب فى فكرة واحدة تزيح النقاب عن الإستراتيجية الأمريكية الصهيونية ، وخططها المستفزة للسيطرة على دول العالم الثالث بدءأ من محاولاتها لطمس التاريخ العربى والهوية العربية بجميع أطيافها ، بهدف اقتلاع العرب من جذورهم . وبالطبع لا يتأتى هذا الاقتلاع إلا من خلال التحايل والتزوير والتحريف .

" المساعد : المتهم الثالث .

الحارس : مسالم قانع بالع غيظه .

حرب : موجود .

المحقق العام : وظيفتك ؟

حرب : مدرس تاريخ

المساعد : تاريخ مزور .. مغشوش .. واسمعوا كلام الشاهد .

المفتش : بينما كنت أؤدى عملى كمفتش تعليم .. اكتشفت أنه يلقن التلاميذ معلومات
غير صحيحة .

حرب : معلومات صحيحة .. انتصر صلاح الدين الأيوبى فى موقعة حطين ..
انتصر قطز على المغول فى عين جالوت .. انتصر سعد ابن أبى وقاص
على رستم فى معركة القادسية .

المحقق العام : ما شأنك إذا انتصروا أو انهزموا ؟ "

فإدارة التحقيقات فى نص "نبيل بدران " ما هى إلا نموذجاً للمحتل الأمريكى الصهيونى الذى يعكس ممارسات القطب الأوحد بهويته ومرجعيته محاولاً فرض إستراتيجيته التى تقوم على محو الآخر وإلغائه ومحاربة مقوماته الحضارية وطمسها ليحيل العالم إلى دائرة مغلقة ممكن من خلالها احتواء العقل الإنسانى وتفكيك بنيته الثقافية ، وأنظمته الفكرية لصالح حضارة واحدة هى حضارة الأقوى .فالجميع يعلم أن الإنسان العربى صلب التكوين النفسى لأنه محمل بإرث استعمارى عمره آلاف السنين ، وله ذكريات عن أزمان المجد ، والعراقة الحقيقية ، وعن حضاراته التى قدمت للإنسانية الكثير ، ولا شك أن هذه الخلفية التاريخية والذاكرة الجمعية للعربى تملأ وعى المستعمر بالقلق من بعث جديد يعيد للأمة العربية أمجادها الغابرة .

" الزوجة : منذ أعوام وزوجى يقول لتلاميذه هذا الكلام .

حرب : التاريخ شهادتى .

المساعد : زوجك خرج على النص .

المفتش : هذا الكلام حذفناه .

المحقق العام : ليس فى المقرر .

المساعد : ممنوع ترديده داخل المدارس .

الزوجة : الذين رفعوا رؤوسنا نهيل فوق رءوسهم التراب ؟

المحقق العام : كفى عن الكلام .. نحن هنا فى محكمة .

الزوجة : محكمة تعلق على صدر الباطل وساماً ؟

حرب : (بأسى) لو أنهم أحياء لاتهمتم صلاح الدين باسترداد القدس ، ولأمرتم
بنفى هازم المغول ، ولبعتم ابن زياد فى المزاد ولا أطلقتم الرصاص على
صدر ابن أبى وقاص . "

لاشك أن الصورة الحالكة الأليمة التى يقدمها النص هى صورة صادقة وأمينة إلى حد بعيد لواقعنا الذى نعيشه الآن ، "خاصة فى ظل الممارسات التى يقوم بها المحتل الأمريكى فى العراق منذ اليوم الأول للاحتلال ، ومحاولاته لدك المواقع الأثرية العراقية بلا رحمة وهدم المتاحف ، ودور الوثائق والمخطوطات . وما يفعله الاحتلال الصهيونى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة لتهويد مدينة القدس ، وتدمير الآثار العربية الإسلامية من أجل محو ونزع ذاكرة الأمة العربية بتبديل وتغيير المعالم الفلسطينية الجغرافية والتاريخية والتراثية ، فمنذ عام 1978 وهو يطلق أسماء عبرية على المواقع الفلسطينية من قرى ومدن وشوارع وسهول وآبار ، بل ويتعمد ترويج هذه الأسماء فى الكتب والمناهج التعليمية ، وعبر وسائل الإعلام." إن إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية تدرك جيداً أن فلسطين التاريخية لا يوجد فيها شبر إلا ويشهد على بطولات أبنائها وتضحياتهم ، وأن جذور العرب ضاربة فى أعماق ثراها الغالى المعطر بعبير دماء شهدائها ، ولهذا يعمل المستعمر قصارى جهده على طمس حقائق التاريخ والجغرافيا ، فاللص المغتصب كعادته بسيئه التذكير بما سلبه وينعم به لذا يعمل على طمس كل الحقائق حول ما تم اغتصابه ، والكيفية التى سلكها فى عملية الاغتصاب لتبقى الجموع العربية المستقبلية على جهل بما حدث .

" المفتش : والأدهى من هذا وذاك أنه يحرض تلاميذه على رسم تلك الخريطة (ويسلم
المفتش الخريطة للمحقق العام الذى يتأملها دون اكتراث )

المحقق العام : لا تخصنا .. ليست خريطتنا .

حرب : خريطة الأجداد ( ثم مشيراً لأماكن على الخريطة ) وصلوا هنا .. وهنا ..
توغلوا لأقصى الشمال .. لم توقفهم سدود أو جبال .

المفتش : ليست فى المقرر .

المساعد : يجبر التلاميذ على رسم أماكن وهمية .

المحقق العام : إنه خطر على أولادنا .

حرب : سيأتى يوم لن تجد فيه بيتك على الخريطة .

الزوجة : ضاع وطن .. وغداً تضيع أوطان أخرى . "

النص يعطى أبعاداً لقضية تبدو لأول وهلة بسيطة إلا أن أعماقها ، ورموزها تمتد لمدينة القدس وحق العرب الفلسطينيين فى أراضيهم المحتلة . كما يحيلنا إلى الحرية المنقوصة التى يبتاعها العرب من أمريكا والتى يضيق هامشها أو يتسع وفقاً للمصالح الأمريكية فيعكس من خلال أحداثه التدخل السافر للولايات المتحدة فى المقررات الدراسية العربية عامة والمصرية خاصة بدعوى التطور وتحديث التعليم ، وفرض توصياتها بمنع ربط كلمة "إسرائيل " بمسمى " العدو " من أجل زرع بذور التطبيع فى أجيالنا القادمة فى ظل روح السلبية والخنوع التى باتت سمة أساسية من سمات عالمنا العربى"، والتى عكسها النص من خلال زوجة " حرب " عندما طالبت زوجها فى بداية الأحداث بالانصياع لأوامر النظام والتنازل عن اسمه ولقب عائلته ، بل وتجاهل ما حدث ، والتعايش مع الواقع باعتبارهم الطرف الأضعف فى القضية .

" الزوجة : أنا مع التغيير .

حرب : (ساخرا) النساء يفضلن التغيير .

ابن العم : لن نبدل ثوباً أو حذاء .. سنبدل اسم عائلة .

الأب : المهلة أوشكت على الانتهاء .

ابن العم : وإذا رفضنا ؟

الأب : للسجون كلنا سنسير .

الزوجة : يكفى ما جرى لزوجى .

حرب : أيروق لكم اسم بالع غيظه ؟

الأب : كظم الغيظ يجلب الأمراض .

الزوجة : والبلع يفيد الأبدان .. أنا سأبلع ."

يحمل النص خطاباً عربياً يكشف عن الحالة العربية الراهنة ، بتأملها ويعيد النظر فى عوامل الضعف فيها فنحن أمة مختطفة عاجزة مكلومة فى تاريخها وشرفها وكرامتها ، وصلت إلى حالة من التداعى والهوان فى ظل حكام يداعب الخوف أجفانهم فيبيتون فى مستنقع الذل والاستسلام ، وقد أغرقهم القهر الأمريكى .

" المحقق العام : هدفنا إنسان مطوًّر محسًّن .

حرب : احضر يحضر .. أخرس يخرس .. أرفع يرفع .. اخلع يخلع .. اركع يركع
.. إنسان محسن بدون لسان "

كما يشير النص إلى الادعاءات الزائفة للمنظمات الأمريكية والصهيونية ضد العرب ، ودمغهم بالإرهاب ودعم التطرف فى الوقت الذى تتجاوز فيه أمريكا كل حدود العدل والحرية فى حركة القانون الدولى ، حيث أن الحق لديها للقوة والغاية فى عرفها تبرر الوسيلة ، حتى لو كانت هذه الوسيلة هى الممارسة الفعلية للإرهاب فى حق شعوب مسالمة بحجة أنها ضحية للإرهاب الدولى وتسعى لمحاربته ، فيستحيل الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، وتنقلب الموازين ويرتبك منطق الأشياء ليسود الزيف ، وتنعدم الحرية فى معاقلها بحيث لا يصبح لدى أمريكا شيئاً من الحريات باستثناء تمثال الحرية ويصبح أبعد الناس عن الجريمة هو المجرم.

" المساعد : اسمك جريمة .

المحقق العام : مخالف لعصر السلام .

حرب : ليس على لسانى سوى جملتين .. السلام عليكم .. عليكم السلام ..
برنامجى المفضل ( مليون سلام ) فيلمى المفضل ( يا سلام على حبك )
أغنيتى المفضلة (أنساك يا سلام ) .

المساعد : اسمك تحريض على العدوان .

المحقق العام : الجميع ينشدون السلام وأنت تريد الحرب .

حرب : (مندهشاً ) أنا ؟

المساعد : يكفى أن اسمك حرب ."

ويحذر النص من المؤامرات الأمريكية الصهيونية لتغييب عقل الإنسان العربى ، وصرفه عن قضيته الأساسية المتعلقة بالأرض والحريات ، وتحويله إلى كائن مستهلك للرزايا والبلايا التى رمتنا بها الحضارة الغربية ، حيث يتعرض شعب سلامستان فى نص "نبيل بدران" لسرقة من نوع جديد ألا وهى سرقة الوعى ، فبعد أن قضى المتهمون فترة العقوبة فى المنفى المخصص لهم ، يعودون إلى أوطانهم على متن طائرة خاصة ، وفى المطار يكون فى استقبالهم موظف الجمارك الذى هو ذاته السجان .

" الراكب الأول : معى شرائط مصورة .. نستطيع أن نتأكد من تفاهتها وخلاعتها .. لزوم
الفرجة والتسلية .

موظف الجمارك : ممتع هذا الشريط .. شاهدته سبع مرات احترس من زوجتك (ثم مشيرا
له بالمرور ) فى حدود المسموح حسب تعليمات اللجنة العليا للانشراح
والانشكاح .

الراكب الثانى : خمور .. حجم عائلى .. ملتزم بالقانون .. لتر لكل مواطن ، وعائلتنا
غزيرة الإنتاج .

موظف الجمارك : (مشيراً له بالمرور ) فى حدود المسموح حسب توصيات المؤتمر .

الراكب الثانى : الأول لرفع التكدير عن المواطنين .

الراكب الثالث : معى مكيفات .

موظف الجمارك : (يتأمل اللفافة ) صنف جديد .

الراكب الثالث : التمساح .. يجعلك فى حالة استعداد قصوى حتى الصباح .. هدية منى
وتحية لمزاج الجمارك .

موظف الجمارك : (مشيراً له بالمرور) فى حدود المسموح .. حسب تعليمات اللجنة العليا
للمزاج العالى . "

وعندما يعيش الإنسان فى ظل قهر أعمى ، وديكتاتورية هوجاء ، يصبح حتى عقله معتقلاً سجيناً لبطش هذا القهر ، وهذه الديكتاتورية ، ويوضع تحت الوصايا ، حيث تملى عليه آراؤه وأفكاره ، ففى ساحة التفتيش بالجمارك يرفض المسئولون خروج حرب وزوجته دون المرور على جهاز قراءة المخ ويظهر ـ بعد إشارة معينة من موظف الجمارك ـ اثنان من الحراس يضعان غطاءً معدنياً فوق رأس حرب ، وعندما يضغط الكشاف على أحد الأزرار يضىء الجهاز إضاءات حمراء متقطعة تصاحبها أصوات تحذيرية .

الكشاف : ( يقرأ من ورقة ينزعها من الجهاز ) المخ مصاب ببؤرة ثقافية تشكل
خطراً على كل من يتعامل معه، صورة الأشعة تؤكد أنه قرأ الكتاب الممنوع .

حرب : ممنوع داخل البلاد .

موظف الجمارك : وخارجها .. هذا الكتاب يدق طبول الحرب .

الكشاف : ونحن نعيش عصر السلام ..

موظف الجمارك : مدمن قراءة كتب ممنوعة .. أنت الآن متهم . "

ويظهر فى تلك اللحظة المحقق العام الذى يبدأ على الفور إجراءات التحقيق مع حرب بتهمة حمل أفكار مهربة . وبإشارة معينة من موظف الجمارك يضع الحارسان الغطاء المعدنى فوق رأس الزوجة . وعندما يضغط الكشاف على أحد الأزرار يضيء الجهاز إضاءات خضراء متقطعة تصاحبها أصوات موسيقية تفيد بأن عقل الزوجة ما يزال سليماً ويمنع الحارسان الزوجة من الاقتراب من زوجها الذى يتم عزله ، ونفيه ثانيةً إلى وادى الخيام بغرب سلامستان ـ إشارة إلى خيام اللاجئين الفلسطينيين بالضفة الغربية ـ حيث حاجز الأسلاك ذات الثقوب الضيقة التى لا تسمح بدخول يد أو خروجها ، وهناك يولد الضغط انفجاراً ، حيث يدرك " حرب " أن حالة الضعف والهوان التى أصابت شعب سلامستان ، وجعلت منه لقمة سائغة فى فم قوى القهر والاستبداد لن تنتهى بروايته للأمجاد الماضية واستغراقه فى نشوة الفخر والاعتزاز التى قد تنقلب إلى مانع ومعوق حضارى ، بدلاً من أن تكون دافعاً إلى الثورة والتغيير وشاحذاً للفاعلية ، فيقرر السعى إلى مخاطبة وعى الجماهير ، وإيقاظ روح الثورة التى أوشكت أن تموت وتدفن وسط ركام القهر والعبودية . وفى نفس اللحظة التى يخرج فيها "حرب " سيفاً أخفاه فى ملابسه تتدلى من أعلى المنصة المسرحية ، وتظهر من الكواليس عشرات السيوف والسهام والحراب والبنادق ، فقد ولدت الضغوط القهرية التى مارستها الأنظمة المتسيدة المستبدة انفجاراً فى الوعى الجمعى ، فتحركت الجموع تطالب بحريتها المستلبة ، وحقوقها المسروقة . ويظهر منصور والفتى (ابن صاحب الدكان ) وهما يحملان بندقيتين ويشيران لإناس لا نراهم بأن يتقدموا للأمام .

" الحارس : (مذهولا ) الخيام تتحرك .

حرب : صمت عشرة أعوام أنسانا الكلام .

منصور : أحصوا أنفاسنا .

ابن العم : سجلوا همساتنا .

حرب : فى كهوف الصمت أخفينا عزمنا .

منصور : من الصبر نسجنا شراعنا .

ابن العم : من الظلمة أوقدنا نورنا .

الفتى : ومن حاملات الخيام صنعنا سلاحنا . "

ويحاول "حرب " و "منصور " و " ابن العم " و "الفتى" مع آخرين تحطيم حاجز الأسلاك الذى ما يلبث أن يهتز ثم يسقط تماماً ، ويتدافع الجميع وكأن الأجداد قادمون من كل الصحارى لينقذوا شعب سلامستان ، فتهتز الأرض تحت سنابج خيولهم وتهز الكون صيحاتهم وفى تلك الأثناء يهرب المحقق العام والمساعد والحراس بينما يندفع " حرب " وسط الجمهور . وهو يوزع على الجميع خريطة الأجداد .

" حرب : علموا أولادكم رسم خريطة الأجداد ( ثم مشيرا لأماكن على الخريطة )
وصلوا هنا .. وهناك .. توغلوا لأقصى الشمال .. لم توقفهم سدود أو جبال
( وتساعده زوجته فى توزيع الخرائط على الجمهور )

حرب : علموهم .

الزوجة : عرفوهم .

حرب : كانوا فى تلك المدينة .

الزوجة : وفى تلك الجزيرة .

حرب : كانوا فى تلك الضفة .

الزوجة : وفوق ذلك الجبل .

حرب : ذكروهم بما ضاع .. ليتمسكوا بما سيضيع . "

وقد اعتمد " نبيل بدران " فى نصه على تقنيات المسرح التغريبى عبر وسائل متعددة من أهمها الصياغة الموضوعية المنطوية على التناقض المثير للدهشة ، بالإضافة إلى طبيعة الأحداث التى تدور فى أجواء خيالية تفرض أنماطاً خاصة من الشخصيات . كما أن البناء الفنى لتلك الأحداث يقوم على مشاهد منفصلة فى شكل لوحات تعكس كل واحدة منها فكرة تصب فى النهاية فى البناء الشامل للمسرحية .
كما لعب الحوار دوراً هاماً فى تغريب النص حيث اتسم بالجدل والنقاش وتصادم الأفكار، مما يجعل المتفرج يشترك فى هذه الجدلية فيظل واعياً وعياً ذهنياً بما يدور أمامه ، هذا إلى جانب خلق نوع من المشاركة لدى جمهور المتفرجين بتوجيه خطاب مباشر إليهم للوصول إلى حكم نقدى لما يعرض أمامهم مما يولد حافزاً داخلياً للإصلاح والتغيير ، حيث لم يكتف النص بتصوير الحاضر أو تذكيرنا بالماضى بل تطلع أيضاً إلى المستقبل ، ليقوى عزائمنا على اقتحامه وصنعه ، فالمسرحية لا تكتفى بإثارة المشكلة ، والتنبيه إلى مواطن الفساد ، ولكنها تضع العلاج متمثلاً فى تثوير الجموع العربية لمواجهة القوى الخارجية المتربصة بها ، وتراه الطريق الوحيد لخلاص الأمة وتحريرها .
كما يؤكد النص على أن القفز فوق حقائق التاريخ فى محاولة لطمسه وتبديله عملية مارستها الأمم الغازية فى العديد من بقاع العالم على مر العصور ، ولكنها كانت تبوء دائماً بالفشل لأن الشعوب الحرة تهيم بحب أوطانها وتدافع عنها ، وتصون حدودها بلا حدود ، وينتقل هذا الحب من جيل إلى جيل ، لذلك فالمشاريع الاستعمارية المعاصرة القائمة على التجزئة والتشريد لابد أن تهزم فى نهاية المطاف . 

السبت، 19 مارس 2011

نظرية الفن للفن


بقلم: ابراهيم حجاج مدرس مساعد بقسم الدراسات المسرحية كلية الاداب جامعة الاسكندرية
تعتبر نظرية "الفن للفن" واحدة من أهم النظريات والاتجاهات المناهضة لنظرية " الانعكاس، حيث أقرت بقطع الصلة بين الأدب والمجتمع ، " فقد قامت دعوة الفن للفن فى مطلع القرن التاسع عشر كنوع من الهروب من تبعات الحاضر ، فتجاهل الأدباء لذلك العهد ـ فى أدبهم ـ مطالب عصرهم ، وهدفوا إلى خلق أدب هو صورة الترف فى ذاته وكانوا لا يحفلون بالغايات الاجتماعية والخلقية ، ويرون أن "العمل الفنى الجديد له توافقه وانسجامه الداخلى وعلى هذا الانسجام يتوقف الأثر المطلوب لا على اتفاق العمل مع الحياة أو اختلافه عنها .
وينظر بعض النقاد للدعوة السابقة كرد فعل للمذهب الرومانتيكى ، الذى لا يحفل بغير الترجمة عن العاطفى الشخصية ، وينزل بالأدب إلى مستوى الوسيلة ، حيث يرى أصحاب " مذهب الفن للفن " أن من حق الأدب أن يصبح غاية فى ذاته ، لا مجرد وسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة
ومن هنا جاء تعريف إبراهيم حمادة لنظرية الفن للفن على أنها " اتجاه جمالى فى الخلق الفنى هدف به أصلاً الشاعر والناثر "ثيوفيل جويتيه " ( 1811 ـ 1872) إلى الثورة ضد استخدام الفن كأداة للتعبير عن الذات . إن هدف الفن ـ فى نظره ـ ينبغى أن يكون لذاته الجمالية لا أن يكون وسيلة للإفصاح عن مشاعر الفنان الخاصة .
وقد انبثقت هذه النظرية عن الفلسفة المثالية التى يعد الفيلسوف الألمانى " كانط" Kant أهم روادها ، حيث تقوم فلسفته على الإيمان بعدم وجود عالم خارجى منفصل عن الإنسان وأن الحقيقة هى نتاج النفس البشرية وبأن الشيء ما هو إلا فكرتنا عن الشيء أى أن الحقيقة هى مجرد أفكار لا دلاله لها فى عالم خارجى محسوس ، وفى ظل نظريته لم يعد الشعر محاكاة للطبيعة كما كان الاعتقاد فى القرن الثامن عشر وإنما محاكاة الخلق نفسها أى أن العمل الفنى كائناً عضوياً مستقلاً عن أى شيء خارجه . فهو يعد المتعة الفنية غاية فى ذاتها فلا ينبغى أن نبحث وراءها عن غاية خلقية أو اجتماعية ويعتبر أن " الجمال هو رضاء مجرد من الغرض. " ( 70)
فهو لا يرى عناصر الجمال إلا فى الشكل أو المضمون فيلقى به خارج نطاق علم الجمال
وتعتبر آراء " كانط " هى الدعامة الأساسية لدعاة نظرية الفن للفن حيث عادت إلى فرنسا فى أوائل القرن التاسع عشر كوكبة من المثقفين الفرنسيين المهاجرين الذين أسهموا فى نشر أفكاره وفلسفته ومنهم الشاعر " جويتيه " الذى يقول فى مقدمة ديوانه "قصائد أولى" ( 1832) " إذا كان هناك ثمة هدف يحاول هذا الكتاب تحقيقه فهو فقط يحاول أن يكون جميلاً.
ويعتبر أوسكار وايلد Oscar Wilde واحداً من أنصار هذا المذهب ، وكانت مسرحية "سالومى " ثمرة من ثمار دعوى الفن للفن حيث لا مجال للاعتبارات الدينية أو الأخلاقية أو القومية عند التعامل مع نص كهذا .
إن هذه المسرحية تعرض تصويراً قوياً للحب الجسدى الشهوانى العنيف ، ولكنها تفتقر إلى المبررات التى يمكن أن تقنع المتلقى بهذا الحب ، إذ ليس من السهل أن تصدق كيف أن سالومى ، تلك الفتاه العذراء تندفع فجأة وبدون مقدمات فى حب يوحنا المعمدان لتصل إلى تلك الدرجة من الشهوى الجسدية دون الإحساس حتى بأى نوع من الحياء أو الخجل.
كما رفع ت . س إليوت T.S Eliot راية مذهب الفن للفن فى أول عهده بالنقد ( وهى المرحلة التى تبدأ فى عام 1917 ) حيث كان همه كله منصرفاً إلى توفير الأسس الجمالية فى العمل الأدبى ، فيها كان يفر " إليوت " مما يسميه ( خلط الأجناس ) يقصد بذلك خلط الأدب بالفلسفة أو بالاجتماع ، فهو يرى أن العمل الأدبى ليس وسيلة ولكنه غاية فى ذاته ن ولا يمكن أن يكون إلا صوره لنفسه فقط ، إلا أن " إليوت " كان فى المرحلة الثانية من مراحل تطوره أقرب إلى النزعة الواقعية حيث ذكر فى مقدمة كتابه "الغابة المقدسة" (1928) أنه مهما قيل فى استقلال الفن ، ومهما أجتهد أهله فى الاكتفاء به غاية فى ذاته ، فأنه لا بد وأن يمس مسائل الخلق والدين والسياسة .
وقد واجهت دعوت الفن للفن بعض المعارضات ، فقد عاب الاشتراكيون على الدعوة محاولة فصلها عن المجتمع.
كما قاد " سارتر" حملة ساخرة على هؤلاء الذين يحصرون قيمة الأدب فى نواحيه الفنية وينفون أن يكون للأدب تأثير أو هدف، فرفض الفصل بين الجمال الفنى والقيمة.
وأقر بان الكاتب الذى يتبع تعاليم دعاة ( الفن للفن ) ، يهتم قبل كل شيء بكتابة أثار لا تخدم شيئا البتة ، أثار محرومة من الجذور ، وهكذا يضع نفسه على هامش المجتمع ، أو لا يقبل بالأحرى إلا يمثل فيه إلا بصفة مستهلك محض ، وعلى وجه الدقة كطالب متعه . فالفن الخالص والفن الفارغ سواء بسواء ، والدعوى إلى مثل هذا الفن ـ فيما يرى "سارتر" ـ ليست إلا ذريعة تذرع بها نكرات القرن الأخير لأنهم أبو أن يسلكوا سبيل التجديد والكشف وأن يبدعوا شيئاً ذا قيمه .
أن قصور دور الفن على إبراز النواحى الجمالية يقلل من فرص خلوده ، إذ أن الجمال ليس مطلق فكما يتغير مقياس الحياة بتغيير ظروفها يختلف الإحساس بالجمال من عصر إلى عصر وكذلك من طبقة إلى طبقة .
كما أن قصور وظيفة الفن على المتعة والتسلية ، إنما هو دحض لقيمته وإغفال لدوره الفعال فى الارتقاء بمستوى الحياة الواقعية إلى المثالية ، فلو كان الفن هو ما يجلب المتعة فيمكننا الاعتراف بان الطعام الطيب وشم الروائح الذكية ومختلف الأحاسيس المادية الأخرى يمكن أن تعتبر فنوناً .
وهذا يتفق مع جلبرت موراى Gilbert Murray فى قوله بأن إبداع أى عمل فنى لابد وأن يقوم على قصد المنفعة والاستخدام ، فليس ثمة صورة ترسم لأناس عمى ، ولا يبنى قارب فى غير وجود ماء .
إلا أنه يمكن أن نضيف لرأى "جلبرت موراى " رفض " سارتر " للفصل بين الجمال الفنى والقيمة حيث أن وظيفة الفن كمنشط لوعى المتلقى تجاه الممارسات الاجتماعية التى تحيط به لا تتعارض مع طبيعته كوسيلة للإمتاع والترفيه وأن رعاية القيم الجمالية ضرورى للفنان وضرورى للفن وإلا تداخلت الخطوط بين العلم والأدب ، وأنه إذا تضافرت القيم الجمالية التى يتضمنها العمل الفنى مع القيمة الاجتماعية التى يهدف إليها المبدع لخلق عمل متكامل يجمع بين الإقناع والإمتاع أصبح للفن هدفٌ أسمى من أن يكون لمجرد التسلية .
ابراهيم حجاج مدرس مساعد بقسم الدراسات المسرحية كلية الاداب جامعة الاسكندرية

الجمعة، 18 مارس 2011

قراءة جديدة لنص "ياطالع الشجرة" لتوفيق الحكيم


بقلم:ابراهيم حجاج مدرس مساعد بقسم المسرح كلية الآداب جامعة الاسكندرية
تعتبر مسرحية "يا طالع الشجرة" من أكثر مسرحيات الحكيم التى وقف أمامها النقد طويلا، حيث تعددت التحليلات والرؤى النقدية لهذه المسرحية ، فهناك من أبصر فيها ظلال الموقف الخالد فى حياة البشرية الأولى والمواجهة التى حدثت بين آدم وحواء ومانتج عنها من صراع ، ومن هذا المنطلق، اعتبروا السحلية رمزا للحية، فى حين لم تلعب السحلية فى نص الحكيم دور الغواية، واكتفى الحكيم بظهورها واختفائها وقت ظهور واختفاء بهانا " زوجة بهادر ، ومن النقاد من ارتكن لاثبات صحة هذا التحليل إلى حرف الباء الذى يبدأ به اسم كل من الزوجين " بهانا وبهادر" وربطه بكلمة "بداية"، واعتقد أن الحكاية هى حكاية بداية الخلق، وعلى الجانب الآخر نفى البعض وجود مضمون حقيقى للمسرحية، واعتبرها تجربة اعتباطية -لادخال العبث الى المسرح المصرى- تحتمل أكثر من معنى ، وقالوا " إذا كان لنا أن نسأل الحكيم ماذا تعنى مسرحيته علينا أن نسأل بيكاسو وفان جوخ ماذا تعنى رسوماتهما التجريدية، وهذا ما جعلنى أعود الى النص لقرائته قراءة متأنية موضوعية، ومن الغريب أنى وجدت مضمون المسرحية واضح وضوح الشمس، وقد أورده الحكيم بشكل مباشرعلى لسان شخصية الدرويش فى نهاية المسرحية

"الدرويش: معنى كل كائن داخل كيان ذاته.

هذه هى مقولة المسرحية الرئيسية، فالحكيم فى أول تجاربه العبثية أراد أن يوضح رأيه فى العبث، ووصل إلى أن العبث شيئ نسبى كأى شىء فى حياتنا، فما تراه أنت عبث قد لا أراه أنا كذلك، والمسرحية ماهى إلا اثبات لمعتقده هذا ،فالزوج يرى أن حياة زوجته عبثية لأنها لا تفكر الا فى الانجاب،ولذلك يقدم على قتلها ولكن الدرويش يؤكد له أن حياة امرأته كان لها معنى ولكنه داخلها وليس برأسه هو


"الزوج : حياتها كانت عبثا ...أسقطت ثمرتها .... ولم تعش الا على وهم الأمومة
الدرويش : إنها ليست عبثا..مادمت ستقدمها غذاء شهيا لشجرتك.
الزوج : صدقت من هده الوجهة هى نافعة.
الدرويش : إذا كان هناك عبثا ففى حياة الشجرة.
الزوج : كيف؟... الشجرة؟
الدرويش :إنها تأتى بزهر هى لا تشمه، وبألوان هى لا تشاهدها، وبثمر هى لا تأكله، ومع ذلك تكرر هذا العمل العابث كل عام
الزوج : هذا ليس عبثا، هذا عمل نافع.
الدرويش : بالنسبة إليك أنت؟
الزوج : طبعا.
الدرويش : اعترف إذا أن ما تسميه بالعبث هو بالنسبة إليك أنت....
الزوج : تريد أن تقول أن حياة امرأتى كانت لها معنى؟
الدرويش : معنى كل كائن داخل كيانه ذاته...لا داخل رأسك أنت..."

وهذا النوع من التضارب فى الفكر الانسانى ما هو الا نتيجة للتناقضات التى تعشش داخل الإنسان، والتى عبر عنها الحكيم فى مسرحيته بالشجرة التى رأى البعض أنها رمز لشجرة المعرفة بينما أكد البعض الآخر أنها تمثل الطموح الانسانى، فى حين أنها ترمز بشكل واضح إلى التناقضات التى تعترى النفس البشرية حيث كان طرحها لأربعة أنواع مختلفة من الفاكهة مشروط بدفن جثة انسان كاملة اسفلها كسماد،بما يحمله من تناقضات وهذا ما أكده الحكيم على لسان الدرويش حين قال:

الزوج : شجرتى هذه يمكن أن تطرح كل هذه الفاكهة المختلفة فى الفصول المختلفة ؟

الدرويش : إذا دفن تحتها جسد كامل لانسان .....فإنها تتغـذى بكل ما فيه من متناقضات.

فتناقضات البشر تعطيهم الحرية فى أن يحللوا لأنفسهم ما يحرموه على غيرهم ومن ثم تلقى بهم فى عالم عبثى أحلامهم فيه مشروعة بينما تغتال فيه أحلام الآخرين.

هذه رؤيتى المتواضعة لنص الحكيم التى أضيفها للرؤى النقدية المتنوعة للمسرحية    ويبقى أن نؤكد على أن تعدد دلالات هذا النص ومعانيه لهو أكبر دليل على مدى ثرائه فنيا بوصفه واحدا من أهم مسرحيات العبث المصرى.

الخميس، 17 مارس 2011

خدعوك فقالوا...لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة





بقلم ابراهيم حجاج مدرس مساعد بقسم الدراسات المسرحية بكلية الآداب جامعة الآسكندرية
بسم الله الرحمن الرحيم{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ التوبة 32-33 ] . صدق الله العظيم يقول "ابن خلدون" فى مقدمته الشهيرة أن "العرب أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة ، وبعد الهمة ، والمنافسة فى الرياسة ، فقلما تجتمع أهواؤهم، ومن أجل ذلك لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبؤه أو أثر من دين على الجملة بهذه المقولة الصريحة يضع ابن خلدون يده على رأس الداء فى نظام الحكم العربى الذى لا يتم إلا بصبغة دينية على حد قوله ، ومن ثم اختلطت أوراق الدين بأوراق السلطة طوال تاريخنا، وأصدق مثال على هذا رأى العديد من المؤرخين فى أن الدولة الفاطمية نشأت نشأة غريبة بتونس ، واستطاع مؤسسها "المهدى" أن يقنع مريديه بأنها دولة المهدى المنتظر الذى جاء من نسل السيدة فاطمة الزهراء ، وإنه مهدى آخر الزمان وانطلاقا من هذا الفكر تشبث المغرضون بالدعوة ـ غير المنطقية ـ التى تنادى بضرورة فصل الدين عن السياسة، والسياسة عن الدين، حيث ترى فى هذا الفصل حلاً للصراعات القائمة حول السلطة على مر التاريخ. والدعوة بهذا الشكل بمثابة عملة واحدة لوجهين أو بمعنى أدق سلاح ذو حدين ، حده الأول سلاح لمن يتربص باسلامنا الحنيف ويتمنى له الانزواء وهذا لم ولن يحدث رغم كيد الحاقدين مصداقا لقوله سبحانه وتعالى - : { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ التوبة 32-33 ] فالحياة سياسة والسياسة حياة وليس من طبيعة الدين أن ينفصل عن الحياة ، وان يكون فى ركن ضئيل منها بينما تسلم سائر الأركان الأخرى لآلهة مزيفة يضعون لها المناهج دون الرجوع إلى شرع الله ، فليس من طبيعة الدين أن يشرع طريقاً للآخرة لا يمر بالحياة الدنيا قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة:48] ولقد رأينا المسلمين في عصورهم الذهبية حين ارتبطت سياستهم بالدِّين، فتحوا الفتوح، وانتصروا على الإمبراطوريات الكبرى، وأقاموا دولة العدل والإحسان، ثم شادوا حضارة العلم والإيمان، مستظلين براية القرآن.ومن هنا لا يمكن لعاقل أن ينكر – أهمية الاصلاح الدينى ، وضرورته فى مجتمعات أدمنت الجمود والتقليد الأعمى لسلبيات الثقافات الغربية.ان وجهة النظر المغلوطة للدعوة هى الوجه القبيح لها، وحدها المسموم الموجه من الملحدين، أما حدها الثانى الذى نقره ونريد توضيحه فى مقالنا هذا، فهو رفضها استغلال الدين بهدف تحقيق مطامع شخصية وسياسية .فيجب عدم الخلط بين فصل الدين عن السياسة ، وفصل الدين عن المطامع الشخصية، بمعنى وجوب الترفع بالدين عن المهاترات السياسية ، وان نحرم استغلاله كقناع تتستر خلفه مطامع سلطوية، وما عدا ذلك فإذا دخل الدين الحق فى السياسة، دخل دخول الموجه للخير، الهادى الى الرشد، المبين للحق، العاصم من الضلال، فهو لايرضى عن ظلم أو زيف ولا يقر تسلط الاقوياء الطغاة على المستضعفين. والدِّين إذا دخل في السياسة: هداها إلى الغايات العليا للحياة ، وتزكية النفس، وسمو الروح، واستقامة الخُلق. وتحقيق مقاصد الله من خلق الإنسان: عبادة الله، وخلافته في الأرض، وعمارتها بالحق والعدل، بالإضافة إلى ترابط الأسرة، وتكافل المجتمع، وتماسك الأمة، وعدالة الدولة، وتعارف البشرية.وقد تناول المسرح تلك القضية الخطيرة فى العديد من الأعمال الدرامية فقد تناولها " محمد أبو العلا السلامونى" صراحة فى نصه "أمير الحشاشين" وفيها تناول قضية الاستيلاء على السلطة من خلال رفع شعارات دينية "ديما جوجية" لتحقيق مصالح شخصية.كما تناولها "توفيق الحكيم" ضمنيا فى نصه "مجلس العدل" وفيه ينتقد "الحكيم" تصرفات القاضى ومبادئ العدالة التى يطبقها حسب وجهة نظره، ومصالحه الشخصية.حيث تبدأ المسرحية بمشكلة بين صاحب فرن وصاحبة أوزة، حيث يتهم الأخير الفران بسرقة أوزته ، ويحتكم للقاضى
ص الإوزة : أنا صاحب الإوزة ؟
القاضي : هل كانت لك إوزة ؟
ص الإوزة : نعم يا سيدي القاضي . وأخذها مني هذا الفران وهي في الصينية وادخلهافي فرنه أمامي وعندما طالبته بها رفض ردها .
القاضي : ماذا قال .
ص الإوزة : قال شيئا لا يدخل في العقل ؟ حجة مزعومة للاستيلاء على إوزتي .
القاضي : لا تتفلسف ! ... قل نـَصّ كلامه
ص الإوزة : قال أنها طارت . أتصدقَ ذلك يا سيدي القاضي ؟
القاضي : ألا تصدق أنت ؟
ص الإوزة : لا طبعا.
 القاضي : وهل أنت مؤمن بالله ؟
ص الإوزة : مؤمن بالطبع .
القاضي : ألا تؤمن بقدرته ؟
ص الإوزة :أؤمن طبعا
القاضي : ألا يستطيع الله أن يحيي العظام وهي رميم ؟
ص الإوزة : يستطيع . ولكن...
 القاضي : كفى لا يوجد (لكن)إما انك مؤمن بالله وقدرته . وإما انك كافر حلت عليك لعنته .
ص الإوزة : مؤمن بالله وقدرته .
القاضي : أعترف إذا انه يستطيع أن يجعل إوزتك تطير من الفرن.
 ص الإوزة : يستطيع . ولكن ..
القاضي : اسمع .. هي كلمة واحدة ..هل طارت الإوزة من الفرن بقدرة الله أم لك تطر ؟
ص الإوزة : طارت
القاضي : انتهينا.

      هنا يسخر "الحكيم" من هؤلاء الذين يستغلون الدين لتحقيق مصالحهم ، وليس معنى ذلك أنه يقر فصل الدين عن السياسة أو الحياة ، ذلك الفصل التعسفى الذى يبتغيه الملحدون ويتأكد موقف "الحكيم" من قضية الدين والحياة ـ بعموميتها ـ فى رأيه حول قضية أكثر خصوصية ألا وهى قضية الربط بين الفن والدين حين قال " هناك صلة فى اعتقادى بين رجل الفن ورجل الدين ذلك أن الدين والفن كلاهما يضيء من مشكاة واحدة ، هى ذلك القبس العلوى الذى يملأ قلب الإنسان بالراحة والصفاء والإيمان وان مصدر الجمال فى الفن هو ذلك الشعور بالسمو الذى يغمر الإنسان عند اتصاله بالأثر الفنى ، ومن أجل هذا كان لابد أن يكون مثل الدين قائماً على قواعد الأخلاق."وهو ما ينطبق على فكره فى هذه المسرحية التى تدعو الى ضرورة الترفع بالدين عن اية مصالح شخصية.لأن الدين أعلى وأسمى من أية مهاترات، رافضا فكرة فصل الدين عن السياسة تلك الفكرة التى تتبع فى حقيقتها نظرية مكيا فللي[1]، التي تفصل السياسة عن الأخلاق، وترى أن "الغاية تبرِّر الوسيلة" وهي النظرية التي يبرِّر بها الطغاة والمستبدون مطالبهم وجرائمهم ضد شعوبهم، وخصوصا المعارضين لهم، فلا يبالون بضرب الأعناق، وقطع الأرزاق، وتضييق الخناق، بدعوى الحفاظ على أمن الدولة، واستقرار الأوضاع ... إلى آخر المبرِّرات المعروفة.ولكن هل هذه هي السياسة التي يطمح إليها البشر؟ والتي يصلح بها البشر؟ أرجو أن لا يفهم كلامى على أنه دعاية للاخوان أو الجماعة أو أى جبهة دينية فالدين غير قاصر على هؤلاء. ما رأيكم فى دولة يحكمها رئيس يعمل بقوله تعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) 
فلم يقل الله ان مكناهم في الأرض نشروا الظلم والفساد وغلبوا المصلحة الشخصية فاغتالوا أحلام شعوبهم ونهبوا مقدراته أو حرقوا الذين يكفرون بالله الواحد الاحد أو برسوله الكريم إن البشر لا يصلح لهم إلا سياسة تضبطها قِيَم الدِّين وقواعد الأخلاق، وتلتزم بمعايير الخير والشر، وموازين الحق والباطل بعيدا عن المغالاة و التعصب الدينى أو التفريط المبتـذل، فديننا دين الوسطية والاعتدال.

الأربعاء، 16 مارس 2011

فى النقد المسرحى - نظرية الانعكاس .

بقلم:ابراهيم حجاج مدرس مساعد بقسم الدراسات المسرحية بكلية الآداب جامعة الاسكندرية
يعتبر "جورج لوكاش" G.LUCKACS فيلسوف الواقعية الأكبر فى النصف الأول من القرن العشرين هو المنظر الأساسى لمبادئ المدرسة الجدلية التى تعود إلى الفيلسوف الألمانى " هيجل " HEGEL ورأيه الذى بلوره فيما بعد " ماركس " MARX فى العلاقة بين البنى التحتية ( علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج ) والبنى الفوقية (الثقافة والفنون والفلسفة ) ، حيث أوضح أن هذه العلاقة متبادلة ومتفاعلة مما يجعلها علاقة جدلية قائمة على التأثير والتأثر . 
بمعنى أن أى تغيير فى البناء الاقتصادى والاجتماعى يؤدى إلى تغيير فى شكل الوعى أو مجمل البناء الفوقى الذى يعود فيؤثر فى البناء التحتى من خلال تثبيته أو تعديله أو تغييره ، فالواقع المادى فى تفاعل مستمر مع الأفكار . والتغيرات التى تحدث فى المجتمع نتيجة للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كلها تؤثر فى الوضع الإنسانى ومن ثم فى شكل الدراما ومضمونها ، وهذا يعنى أن الأدب انعكاسً للواقع الاجتماعى .
هذا ، وكان يظن قبل ظهور الفلسفة المادية أن البنية الفوقية للمجتمع تتطور على نحو مستقل ومتميز كل التميز عن البنية التحتية حتى ربطته تلك الفلسفة بعضه ببعض وفسرته بعد وصله بتطور المجتمع .
"وخلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين أدرك بعض علماء الاجتماع أهمية إيجاد فرع متخصص من فروع المعرفة السوسيولوجية لدراسة الأدب باعتباره ظاهرة اجتماعية مثل باقى الظواهر الاجتماعية الأخرى ، وأطلق على هذا الفرع الجديد من الدراسة أسم ( علم اجتماع الأدب )
وقد أكد هذا العلم الجديد على أن الأدب ليس نتاجا فرديا ، بل هو ضرب من ضروب الإنتاج الجماعى ، ومن هنا يتضح أهمية المجتمع فى عملية الإبداع الفنى بشكل عام ، والإبداع الأدبى بشكل خاص ، فالأدب يتأثر بالأوضاع الاجتماعية والتاريخية ، وهو مشروط بالظروف الاجتماعية والتاريخية . والعلاقة بين الأدب والمجتمع هى أولا وأخيرا علاقة تأثير وتأثر ، ولقد أكد عالم الاجتماع الفرنسى "إميل دور كايم" E.durkherm على اجتماعية الظاهرة الأدبية بقوله " أن الأدب ظاهرة اجتماعية ، وإنه إنتاج نسبى يخضع لظروف الزمان والمكان ، وهو عمل له أصول خاصة به وله مدارسه ولا يبنى على مخاطر العبقرية الفردية، وهو اجتماعى أيضا من ناحية انه يتطلب جمهورا يعجب به ويقدره . "
والمسرح بوصفه أحد الأجناس الأدبية يعتبر " أكثر الفنون ارتباطاً بالحياة فهو نشاط إنتاجى جماعى جدلى تتحول فيه الممارسة الإبداعية إلى ممارسة اجتماعية معرفية عبر عمليات الإرسال والتلقى وإعادة إنتاج الدلالة بصورة مستمرة مع كل عرض فى سياق توأمة الحوار الدائم مع الواقع المتغير."
وأكثر النظريات تمثيلا لهذا الاتجاه هى " نظرية الانعكاس " والتى تهتم بالعلاقات والنظم المادية داخل المجتمع ثم تبحث فى طبيعة الصلات والعلاقات والمتبادلة بين المجتمع والأدب من خلال رصد التأثيرات المتبادلة بينها ، تلك الوظيفة التى يبلورها أبو الحسن سلام فى مجال المسرح فيعرفها على أنها " قصر غاية التلقى على الانعكاسات المتبادلة للمجتمع إرسالا واستقبالا مؤكدا على امتطاء الذات الاجتماعية لعلاقات الإنتاج وانعكاسات الصراع الطبقى على بنية النص أو العرض المسرحى " ويتأكد هذا المعنى من خلال كلمات "ماركس " Marx حين يقول : أن الأدب والفن هما سلاح الطبقة ففى المجتمع المقسم إلى طبقات يعكس الأدب والفن بطريقة مباشرة ، أو غير مباشرة معنويات طبقة معينة ، وآرائها السياسية وذوقها الجمالى."
ذلك أن ما طرأ على المجتمع الإنسانى من تطور اقتصادى وسياسى وفكرى فى مطلع القرن العشرين ، وما لحق به من حروب طاحنة عالمية ومحلية وما استجد من نظم سياسية وما خاضته بعض الدول من ثورات وصراعات لنيل الحرية والاستقلال كل ذلك فرض على الأديب دورا فعالا فى المجتمع الذى يعيش فيه والمشاركة فى قضاياه بما يضمن مواجهة الفساد . فالأدب ـ فى نظر الباحثين ـ أداه من أدوات الاصلاح الاجتماعى بوصفة وسيله من وسائل الدعاية الثورية ضد الممارسات الفاسدة. ولا يختلف اثنان فى أن هذه الوظيفة التنويرية للأدب هى التى تستهدفها نظرية الانعكاس وهى التى نادى بها الفلاسفة والمفكرون منذ أقدم العصور حيث يؤكد سقراط Socrates على أن "الفن سواء ما كان فنا جميلا أو فنا صناعيا له وظيفة تخدم الحياة الإنسانية والأخلاقية."
وإذا تتبعنا الجذور التاريخية للعلاقة بين الأدب والمجتمع سنجد أن مفهوم الانعكاس يضرب بجذوره فى أعماق الماضى وأن الفكرة التى مؤداها أن الأدب يعكس المجتمع ويصور الواقع الاجتماعى ليست بالفكرة الجديدة بل هى قديمة قدم مفهوم أفلاطون Plato عن المحاكاة .
فقد أشار أفلاطون إلى مفهوم " المرآة التى توضع أمام الطبيعة لتمثل فكرة انعكاس الحياة فى الأدب وأستخدم أرسطو أيضا مفهوم المحاكاة حيث أكد على أن الفنون بصفة عامة تعد محاكاة للواقع وأصبحت هذه الفكرة مألوفة بعد ذلك فى النقد الأدبى ابتداء من عصر شيشرون الرومانى حيث استخدم مصطلح " مرآة العادات " أى أن الاعمال الفنية والأدبية تصور العادات والتقاليد المجتمعية واستخدم هذا المفهوم أيضا لدى نقاد العصور الوسطى وكانت تشير فى هذه الحقبة إلى نوع تعليمى انتشر منذ القرن الثالث عشر حتى القرن الخامس عشر وتقدم أعمال هذا النوع لطبقات مختلفة من الأفراد مثل "مرآة العذارى" "مرآة الراهبات" ....... الخ والمرآة هنا لا تعنى ما هم علية بل ما يجب أن يكونوا عليه ، وبعكس العرف السائد حاليا كانت وظيفة المرآة حين ذاك معيارية وليست تصويرية وقد استخدم شكسبير مفهوم " المرآة والانعكاس " فى مسرحه حيث كان يؤكد على واقعية الفن الذى يجب أن يكون ـ على حد تعبيره ـ انعكاسا للحياة لا تحريفا لها . (11)
ومن المثير للدهشة فى هذا العرض التاريخى الوجيز أن أفلاطون أستاذ المثالية الأول والذى أقصى الشعراء من مدينته الفاضلة قد اعترف بوظيفة الفن الاجتماعية والسياسية فقد ذكر فى كتابه " القوانين " Laws " أن الفن يساهم فى تكوين المواطنين ، ويقوى المجتمع برابطة تصل كل منا بالآخرين . " (12)
وما إن ظهر مصطلح الواقعية فى الأدب فى منتصف القرن التاسع عشر حتى صار تعبير "أن الفن انعكاس أمين للطبيعة " شعارا لها (13) واعتبرت الفن المقبول والذى تباركه هو ما كان مرتبطا بالمجتمع مقدما له ما يتفاعل معه ويغير منه ، وعلى هذا المعتقد فإن الأديب عليه أن يغترف مادته من المنهل العام للمجتمع وأن يغمس قلمه فى مشكلاته وان تكون لديه القدرة على الإحساس بتموجات الحياة الاجتماعية والرصد الدقيق لخلجات المجتمع والاستكشاف الواعى لقضاياه من خلال رؤية ثاقبة وحس مرهف فالتجربة الأدبية تنشأ فردية آنية ، ولكنها لا يمكن أن تبلغ مداها وتحقق ذاتها إلا إذا خرجت من حدود الفرد إلى المجتمع ، ومن الواقع الخاص إلى الواقع العام وغدت المشكلة فى نفس الأديب رمزاً للمشكلة فى ضمير الإنسانية لان المجتمع هو مجال تكامل التجربة الأدبية ، كما انه هو مجال تكامل الفرد .
وترجع أول معالجة حقيقية للعلاقة بين الأدب والمجتمع إلى الفيلسوف الفرنسى "هيبوليت تين" H.taine وعلى غرار سابقيه أمثال "أوجست كونت" Auguste conte 1798 ـ 1856 مؤسس الفلسفة الوضعية وأول من صك مصطلح علم الاجتماع . حاول تين إخضاع الأدب والفن إلى أسس مادية مستقاة من المجتمع تعكس حقائق مؤكدة ومحددة، حيث يرى أن الأعمال الأدبية ينبغى أن تفهم على أنها نتيجة أو محصلة ثلاثة عوامل متمازجة العصر ، والجنس (العرق) ، والبيئة . (14)
فإذا بدأنا بالجنس سنجد أن تين taine قد عرفه فى ضوء السمات النظرية والوراثية والمزاج الانفعالى حيث أشار إلى أن هناك اختلافا واسع النطاق بين الأجناس البشرية بعضها البعض من حيث الظروف المعيشة و الموطن الأصلى والأصل التاريخى .. الخ "حيث يكتسب الجنس الخصائص المميزة له من البيئة الطبيعية والعادات والتقاليد المتوارثة والأحداث التاريخية التى مر بها فى أصله .فضلاً عن الدوافع والرغبات الدفينة التى تلعب دوراً هاماً فى صياغة الفعل الإنسانى وتطويره " . (15)
وبالنسبة للعصر وهو العامل الثانى الذى يحدد شكل ومضمون الأدب ـ كما أشار تين ـ فقد قصد به الأفكار والمفاهيم الإنسانية المسيطرة على روح العصر المنتج للعمل الأدبى وأخيرا أكد تين على دور البيئة كعامل أساسى فى تحديد شكل ومضمون الأجناس الأدبية وتعنى البيئة أشياء كثيرة كالمناخ والجغرافيا الطبيعية والنظم الاجتماعية التى تحتضنها هذه البيئة .
أما نظرية الانعكاس فقد ارتبطت بالمعنى الحرفى لها بـ " لينين " حيث أكد أن إحساسنا وشعورنا ليس سوى صورة للعالم الخارجى وهذا القول يؤكد على أن الاعمال الفنية ـ بصفة عامة ـ ما هى إلا انعكاس للواقع وان الأدب ـ بصفة خاصة ـ مرآه تصور الواقع الاجتماعى فى تناقضه وتعقده ولذلك كان " تولستوى " عند " لينين " مرآة الثورة الروسية لعام 1917 حيث كان مرآة حقيقية لتلك الظروف المتناقضة التى أحاطت بنشاط الفلاحين التاريخى فى هذه الثورة .
ويرى ماركس Marx "أن الإنسان كائن اجتماعى ينبع إبداعه من نشاطه العملى ويطرأ عليه التغير والتبدل بعمله على تغيير الطبيعة وتبديلها."
إن كلمات ماركس تحمل إشارة واضحة للدور الوظيفى للفن فى المجتمع ذلك الدور الذى يؤكده عالم الانثروبولوجيا الفرنسى " ليفى شتراوس" Levi Strauss فى عبارة لها مغزاها ودلالاتها العميقة حيث يقول :
" إن الزهرة التى تنمو فى البرارى دون أن يشعر بوجودها أحد لا تعنى شيئا على الإطلاق ولكنها تكتسب معنى محددا ، وتؤدى رسالة واضحة للجميع ، حين تصبح جزءا فى إكليل الزهور الذى يرسل فى تشييع الجنازات ، أو فى تكوين باقات الزهور التى ترسل للمشاركة فى الأفراح ."
وبالقياس على الفنان نجد أن وجوده الفعال يتحدد بمدى تعايشه لواقعة الاجتماعى والمشاركة فى قضاياه بعرضها والدفاع عنها أو معارضتها من وجهة نظر حرة حريصة على قيام العدالة والمساواة والحرية بهدف الاصلاح والتغيير .
ولا شك أن الأدب كما يقرر رينيه ويليك " نظام اجتماعى يصطنع اللغة وسيطاً له ، واللغة إبداع اجتماعى وإذا كان الأدب يمثل الحياة فإن الحياة ذاتها حقيقة اجتماعية.والكاتب المسرحى حينما يصور لنا كائنا إنسانيا كاملا فهو لا يعيد تصوير الإنسان فقط بل يعيد تصوير المجتمع الذى ينتمى إليه هذا الإنسان . وهذا المجتمع ليس إلا ذرة من الكون ومن ثمة فالفن الذى خلق هذا الإنسان يعكس لنا الكون كله."
ويفسر "بول فاليرى" Paul valery العلاقة بين الفنان وبين الآخرين فيؤكد أن الفنان فى أثناء عملية الخلق الفنى يضع نصب عينيه الذين سيتوجه إليهم بعمله ومدى تأثيره فيهم فيقول : إن المبدع هو ذلك الشخص الذى بإمكانه أن يدع الآخرين يبدعون ، فالفنان والمتلقى يتشاركان بفاعلية وتتحدد قيمة العمل الفنى من خلال هذه العلاقة التبادلية بين كلا منهما . وفى المسرح إذا لم تكن هناك علاقة تفاعل بين خشبة المسرح والمشاهدين فإن المسرحية تموت أو تصبح رديئة أو لم يعد لها وجود على الإطلاق.
وبناءً على ذلك فإن الكاتب عندما يبدأ بالتفكير فى عمل فنى يبدأ بحساب التأثيرات الخارجية، فهو يهتم عن وعى أو غير وعى بالأشخاص الذين سيتأثرون بعمله ، ويكون لنفسه فكرة عن هؤلاء الذين يتجه إليهم كما يتصور من ناحية ثانية الوسائل التى يمكنه أن يحصل عليها لتحقيق هذا التأثير .
ويشير جان دوفينو jean duvignaud ( عالم اجتماع فى مجال المسرح ) إلى محور آخر من محاور العلاقة بين الأدب والمجتمع ،حث "يعتبر الدراما نوعاً من الميزان الثقافى الذى يسجل أزمة القيم والمعايير الأخلاقية لعصر معين ويظهر فضائح الخلاف مع الأخلاق الرسمية "
وقد تناول نقاد الأدب العربى العلاقة بين الأدب والمجتمع بالبحث والتحليل فيؤكد "طه حسين " على أن كل أديب لا يستقى مادته وروحه من حياة الشغب فليس أديبا ، ولا هو بكاتب للأدب وعلى ذلك فلابد من أن تعرف ماذا يقول الشعب وكيف يعيش الشعب وكيف يحكى حكاياته وأقاصيصه ولابد للأدباء من دراسة الأدب والحياة فى البيئات المختلفة للناس، ويرى "أحمد أمين" فى كتابه " النقد الأدبى " أن الأديب ليس حقيقة مفردة مستقلة منعزلة ، بل له صلاته التى تربطه بالماضى والحاضر ، وأفكار الشاعر أو الأديب هى لدرجة كبيرة وليدة البيئة ، وعلى ذلك فخير تعريف للأدب انه التعبير عن الحياة ، أو بعضها ، بعبارة جميلة . وإلى شيء من هذا يذهب " محمد حسين هيكل " فيعرف الأدب بأنه فن جميل غايته تبليغ الناس رسالة ما فى الحياة من حق وجمال بواسطة الكلام إن "طه حسين " ، و " احمد أمين " ، و " محمد حسين هيكل " يقرون بوجود العلاقة الوثيقة بين الأدب والحياة وكلامهم السابق له أثره فيما أنتجوه من أدب مصرى ، وما أضافوه إلى النقد خلال الحقبة الأخيرة من تاريخنا.
ويؤكد "لويس عوض " على أن " الأدب لا ينفصل عن المجتمع ، وليس نشاطاً فى فراغ، فالأدب والفن والفكر والسياسة والإصلاح الاجتماعى ... كل هذه الأشياء أدوات للتعبير الاجتماعى ، وليست مجرد فانتازيا."
أما "نبيل راغب " فيقر بالعلاقة بين الأدب والمجتمع فيقول " أن العلاقة بين الأدب والحياة علاقة عضوية متبادلة تأثيراً وتأثراً مثل العلاقة بين العلم والحياة وإذا كان العلم يغير أنماط الحياة على كل المستويات ، فأن الأدب يقوم بنفس المهمة لأنه يؤثر فى وجدان الناس ويغير من نظرتهم إلى الحياة وبالتالى سلوكهم فيها." (25)
ويؤكد على أنه " لا يمكن الفصل بين الفن والحياة ، إذ أننا لو قمنا بهذه المهمة فسنفصل الروح عن الجسد ومن ثم تصير الروح شيئاً مجرداً لا نستطيع إدراكه أو استيعابه ، ويتحول الجسد إلى جثة هامدة لا حراك فيها."
ويتفق " توفيق الحكيم " مع "جان دوفينو" فى الربط بين المذهب الفنى والمذهب الخلقى حين قال " هناك صلة فى اعتقادى بين رجل الفن ورجل الدين ذلك أن الدين والفن كلاهما يضيء من مشكاة واحدة ، هى ذلك القبس العلوى الذى يملأ قلب الإنسان بالراحة والصفاء والإيمان وان مصدر الجمال فى الفن هو ذلك الشعور بالسمو الذى يغمر الإنسان عند اتصاله بالأثر الفنى ، ومن أجل هذا كان لابد أن يكون مثل الدين قائماً على قواعد الأخلاق."
وبناءً على كل هذه الآراء يمكننا القول بأن الفن والأدب هما من المؤسسات الاجتماعية المتفاعلة مع الواقع الاجتماعى ومتغيراته بغرض الإصلاح والتقويم .
ولقد وجهت إلى نظرية الانعكاس بعض الانتقادات والاعتراضات من قبل النقاد والمشتغلين بالأدب حيث انتقد البعض مسمى " الانعكاس " رافضاً قصور دور المسرح على النقل الحرفى للواقع ، وهدمها البعض الآخر ليشيد محلها نظريات تمجد الدور الترفيهى للمسرح وتقصره على المتعة والتسلية .
فقد أكد " رايموند ويليامز" Raymond Williams على أن هناك مفهوماً أخر معدل لمفهوم " الانعكاس " وهو التوفيق أو " التوليف " الذى يدل اسمه على عملية فعالة وليس على تلك الآلية السكونية التى توحى بها كلمة انعكاس ، ويرتكز المفهوم الجديد على عاملى الفاعلية واللامباشرة ، حيث يقدم تصوراً متميزاً لموضوع العلاقة بين الأدب والمجتمع تجاوز مسألة انعكاس الواقع مباشرة فى الأدب مؤكدا على أن الواقع يمر بعملية "توفيق" تغير محتواه الأصلى أو على الأقل تغير صورته من خلال إسباغها لنسق خاص أو شكل خاص على هذا المحتوى الواقعى الخارجى ، إذ ينطوى التوفيق على نوع من التعبير غير المباشر الذى يتحور فى الواقع الاجتماعى من خلال أشكال متعددة من الإسقاط أو التقنيع وبذلك يمكن بعملية تحليل مناقضة استعادة صورة الواقع الاجتماعى الأصلية بعد نزع الأقنعة أو تعرية الإسقاطات.
وبذلك فقد أفسح المفهوم الجديد المجال أمام العقل الواعى بالواقع بوصفه المرآة التى تتلقى الصورة قبل أن تعكسها ، والتى تتعامل بالقطع مع هذه الصورة بفاعلية يترتب عليها تغير الكثير من ملامحها وتفاصيلها فى عملية أقرب إلى إعادة الصياغة منها إلى الانعكاس ، فهو يرى أن مهمة الأديب لا تقتصر على النقل الحرفى للواقع بل تتعدى ذلك إلى صبغته برؤية الفنان التى يحددها فكرة وخياله ، بالإضافة إلى العبقرية الشخصية أو الموهبة الذاتية التى تداركها "تين" وأضافها إلى ثالوثه (البيئة ـ الجنس ـ العصر ) " حين أشاد بعبقرية "شكسبير " فى مقدمة كتابه عن الأدب الإنجليزى حيث أشار إلى أن هناك أشخاصاً أدباء كبارا يرتفعون بقاماتهم عن الوسط الذى عاشوا فيه ، ويحققون بمواهبهم مستويات نوعية من الإبداع لا يمكن أن تفسر فقط طبقاً لنظريته السابقة ، بل لابد من إدخال عامل آخر ، وهو عامل الموهبة الفردية وعبقرية الأشخاص فى حساب الناقد والدارس للإبداع الأدبى."
ويرى الباحث أن مفهوم " التوفيق " يحمل فى طياته اعترافاً ضمنياً بضرورة أن يعكس الأدب الواقع الاجتماعى على أن تتم عملية " الانعكاس " على مستوى المضمون لا الشكل بحيث يتخذ الأدب من المجتمع مادة خام قابلة للصياغة والتشكيل ليعكسها من منظورات متعددة قد تكون رمزية أو تعبيرية أو ملحمية حسب الرؤية الفكرية الخاصة بالمؤلف والتى يبلغ بها أعماق الضمائر والقلوب لتحقيق التأثير المتبادل بينه وبين جمهوره ، وهذا ما يؤكده "ماركس" بقوله :" أن الفنانون صوروا العالم بأشكال مختلفة غير أن مهمتهم هى تغييره."
وعلى مستوى النقد العربى يؤكد "فاروق عبد الوهاب " على أن " تاريخ الفن فى العالم عبارة عن محاولات متصلة من جانب الفنانين لحل مشكلتهم الأزلية مع شكل فنهم فالمضمون واحد والهدف الأساسى من وراء الفن الواحد ، فالمضمون لا يخرج دائماً عن حياة الإنسان ، وحياة الناس وعلاقاتهم ببعضهم البعض ، وتصوير هذه العلاقات من زاوية جديدة ، زاوية خاصة . فالعلاقات موجودة ، ولكن الجديد الذى يقدمه لنا الفنان هو أن يرى هذه العلاقات فى ضوء جديد ، وغالباً ما يكون ضوءه هو الخاص ، وهذه الخصوصية هى التى تضفى على المضمون جدته، ومن ثم شكله الجديد فما يميز الفنان عن غيره من البشر هو قدرته على أن يرى تكوينات جديدة فى أشياء لم تجذب انتباه غيره من الناس"، مع الأخذ فى الاعتبار أن أى تجديد فى الشكل لا يخدم غرضاً ولا يستمد مبرراته من مضمون اجتماعى يظل شكلاً عقيماً تماماً لا ثمرة فيه ، وتأكيداً لهذا المعنى يستنكر "رشاد رشدى " ـ وهو أحد المتحمسين لمدرسة النقد الحديث ـ النقد الذى وجه إلى مسرحية "الأرانب" بشأن تحول بطلها إلى امرأة وتحول البطلة إلى رجل بدعوى أن هذا مخالف للواقع الحياتى ويرى أن " المؤلف " لطفى الخولى " يدعو إلى أن يحدث هذا التحول فى الحياة والواقع ، وأن هذا التحول ـ فى مجال الدراما ـ ليس إلا تجسيداً للمشكلة الاجتماعية التى يعالجها المؤلف ، وهو فى إطارها العام ضرورة أو حتمية التغيير فى مجتمع متطور متطلع، وفى إطارها الخاص حقيقة مساواة المرأة للرجل فى مثل هذا المجتمع أو رفض الرجل لهذه الحقيقة وضرورة تقبله لها ، بل وضرورة تقبل المجتمع للتطور والتغيير الدائم لأن هذا شيء طبيعى."
إن رشاد رشدى يطالبنا بأن ننسى الواقع كما نعرفه ونستبدله بالواقع الدرامى ، حيث الصورة المسرحية المقدمة بأشكال جديدة ممتزجة برؤية المؤلف .
كما أن هذه الأشكال على اختلافها ليست نتاجاً فردياً ، بل هى وليدة ظروف اجتماعية معينة ساهمت فى إفرازها وهذا ما يشير إليه "إرنست فيشر" Ernst Fischer فى قوله "إن التاريخ الاجتماعى للفن يؤكد أن الأشكال الفنية ليست مجرد أشكال نابعة من الوعى الفردى ـ يحددها السمع والبصر ـ وإنما هى إلى تعبير عن نظرة إلى العالم يحددها المجتمع ".
وإلى شيء من هذا يذهب "لوسيان جولدمان" L. Goldman أحد رواد الاتجاه البنيوى التكوينى ( التوليدى) ، والذى تأسس موقفه من دراسة الأدب على النظرية المادية الجدلية ، "فالأدب فى نظر جولدمان " مثله مثل المجتمع ، هو كل متكامل ، فكل عمل أدبى لا يمكن فهمه إلا من خلال فهم أجزائه المكونة له فى علاقتها مع بعضها البعض ، إلى جانب ذلك نجد عنده الاهتمام ببنية المقولات التى تكشف عن رؤية للعالم " بمعنى أن البنية الفكرية للعمل الأدبى تولد وتجسد بدورها بنية اجتماعية طبقية .
والدليل على هذا أن الحرب العالمية الثانية بوحشيتها اللامعقولة وتخريبها الهمجى المدمر كانت سبباً فى توجيه كتاب الدراما لصياغة موضوعاتهم فى شكل درامى عبثى للتعبير عن الواقع بغير الواقع والالتجاء إلى اللامعقول واللامنطقى فى كل تعبير فنى .
حيث يعتقد كتاب المسرح العبثى ، أن وجودنا فى الحياة هو العبث بعينه لأننا نولد بغير إرادتنا ونموت بدون أن نسعى للموت ونحيى ما بين المولد والممات محتجزين فى أجسادنا وعقولنا ، ولهذا جاءت لغة العبث مفرغة من المعنى لتؤكد لا جدوية الأفعال ، أو تناول الأفكار بين الناس .
ومع ذلك لم تخلوا إبداعاتهم من المضامين الاجتماعية ، فعلى سبيل المثال تكشف مسرحية "الخرتيت" للكاتب العبثى " يوجين يونسكو" Eugene Ionesco القناع عن أحد الأوضاع الاجتماعية السياسية الفاسدة حيث ما يسميه يونسكو ( داء الخرتيت ) هو النازية التى كانت عند نشأتها بين الحربين العالميتين اختراعاً أو ابتكاراً من المفكرين أو الأيديولوجيين الذين يتفننون فى خلق عقائد جديدة ، فهم لا يفكرون ولا يتأملون فيما يقولون إنما يحفظون عن ظهر قلب بعض الشعارات العقائدية أو الفكرية يقومون بإلقائها بصورة أليه كقطعة المحفوظات فى أفواه التلاميذ ، ويزيفون الفهم والمفاهيم ، ويحاربون روح التعايش السلمى ، حيث أن الخرتيت لا يمكن أن يتفاهم مه من ليس خرتيتاً مثله لذا يأمل " يونسكو" أن ينهج المتلقى نهج " بيرنجيه " بطل المسرحية فى نبذه للأيديولوجية التى تحيط به وذلك برفضه أن يكون خرتيتاً .
ويتضح مما سبق انه مهما اختلفت الرؤى والأشكال الفنية التى ينسج منها الكاتب إبداعاته فأنها تلتقى فى النهاية عند نقطه أو أرض مشتركة واحدة تؤكد أن العلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة ديناميكية والتأثير بينهما متصل متمازج تختلط فيه الذاتية بالاجتماعية عن طريق التفاعل القائم بينهما .
أما عن النظريات والاتجاهات المناهضة لنظرية " الانعكاس " فتعتبر نظرية "الفن للفن" واحدة من أهم النظريات التى أقرت بقطع الصلة بين الأدب والمجتمع ، " فقد قامت دعوة الفن للفن فى مطلع القرن التاسع عشر كنوع من الهروب من تبعات الحاضر ، فتجاهل الأدباء لذلك العهد ـ فى أدبهم ـ مطالب عصرهم ، وهدفوا إلى خلق أدب هو صورة الترف فى ذاته وكانوا لا يحفلون بالغايات الاجتماعية والخلقية " ، ويرون أن "العمل الفنى الجديد له توافقه وانسجامه الداخلى وعلى هذا الانسجام يتوقف الأثر المطلوب لا على اتفاق العمل مع الحياة أو اختلافه عنها . "
وينظر بعض النقاد للدعوة السابقة كرد فعل للمذهب الرومانتيكى ، الذى لا يحفل بغير الترجمة عن العاطفى الشخصية ، وينزل بالأدب إلى مستوى الوسيلة ، حيث يرى أصحاب " مذهب الفن للفن " أن من حق الأدب أن يصبح غاية فى ذاته ، لا مجرد وسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة .
ومن هنا جاء تعريف إبراهيم حمادة لنظرية الفن للفن على أنها " اتجاه جمالى فى الخلق الفنى هدف به أصلاً الشاعر والناثر "ثيوفيل جويتيه " ( 1811 ـ 1872) إلى الثورة ضد استخدام الفن كأداة للتعبير عن الذات . إن هدف الفن ـ فى نظره ـ ينبغى أن يكون لذاته الجمالية لا أن يكون وسيلة للإفصاح عن مشاعر الفنان الخاصة ."
وقد انبثقت هذه النظرية عن الفلسفة المثالية التى يعد الفيلسوف الألمانى " كانط" Kant أهم روادها ، حيث تقوم فلسفته على الإيمان بعدم وجود عالم خارجى منفصل عن الإنسان وأن الحقيقة هى نتاج النفس البشرية وبأن الشيء ما هو إلا فكرتنا عن الشيء أى أن الحقيقة هى مجرد أفكار لا دلاله لها فى عالم خارجى محسوس ، وفى ظل نظريته لم يعد الشعر محاكاة للطبيعة كما كان الاعتقاد فى القرن الثامن عشر وإنما محاكاة الخلق نفسها أى أن العمل الفنى كائناً عضوياً مستقلاً عن أى شيء خارجه . فهو يعد المتعة الفنية غاية فى ذاتها فلا ينبغى أن نبحث وراءها عن غاية خلقية أو اجتماعية ويعتبر أن " الجمال هو رضاء مجرد من الغرض. "
" فهو لا يرى عناصر الجمال إلا فى الشكل أو المضمون فيلقى به خارج نطاق علم الجمال "
وتعتبر آراء " كانط " هى الدعامة الأساسية لدعاة نظرية الفن للفن حيث عادت إلى فرنسا فى أوائل القرن التاسع عشر كوكبة من المثقفين الفرنسيين المهاجرين الذين أسهموا فى نشر أفكاره وفلسفته ومنهم الشاعر " جويتيه " الذى يقول فى مقدمة ديوانه "قصائد أولى" ( 1832) " إذا كان هناك ثمة هدف يحاول هذا الكتاب تحقيقه فهو فقط يحاول أن يكون جميلاً. "
ويعتبر أوسكار وايلد Oscar Wilde واحداً من أنصار هذا المذهب ، وكانت مسرحية "سالومى " ثمرة من ثمار دعوى الفن للفن حيث لا مجال للاعتبارات الدينية أو الأخلاقية أو القومية عند التعامل مع نص كهذا .
إن هذه المسرحية تعرض تصويراً قوياً للحب الجسدى الشهوانى العنيف ، ولكنها تفتقر إلى المبررات التى يمكن أن تقنع المتلقى بهذا الحب ، إذ ليس من السهل أن تصدق كيف أن سالومى ، تلك الفتاه العذراء تندفع فجأة وبدون مقدمات فى حب يوحنا المعمدان لتصل إلى تلك الدرجة من الشهوى الجسدية دون الإحساس حتى بأى نوع من الحياء أو الخجل.
كما رفع ت . س إليوت T.S Eliot راية مذهب الفن للفن فى أول عهده بالنقد ( وهى المرحلة التى تبدأ فى عام 1917 ) حيث كان همه كله منصرفاً إلى توفير الأسس الجمالية فى العمل الأدبى ، فيها كان يفر " إليوت " مما يسميه ( خلط الأجناس ) يقصد بذلك خلط الأدب بالفلسفة أو بالاجتماع ، فهو يرى أن العمل الأدبى ليس وسيلة ولكنه غاية فى ذاته ن ولا يمكن أن يكون إلا صوره لنفسه فقط ، إلا أن " إليوت " كان فى المرحلة الثانية من مراحل تطوره أقرب إلى النزعة الواقعية حيث ذكر فى مقدمة كتابه "الغابة المقدسة" (1928) أنه مهما قيل فى استقلال الفن ، ومهما أجتهد أهله فى الاكتفاء به غاية فى ذاته ، فأنه لا بد وأن يمس مسائل الخلق والدين والسياسة .
وعلى الرغم من بزوغ نظرية الفن للفن فى مطلع القرن التاسع عشر ، إلا أن جذورها تمتد إلى القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد " ، حيث شاعت بعض الآراء والنظريات التى انتهت إلى نظرية حسية فى الجمال غايتها : أن الفن هو إحداث لذة عند الجمهور المتذوق . وعلى الفنان أن يقدم للجمهور ما يلذة ويرضيه لا ما يجب عليه أن يعمله ، حتى ولو كان ذلك الفن تمويها وغير مطبق للحقيقة الموضوعية . ومن الطبيعى أن يثور أفلاطون وأمثاله على هذه النظرية الحسية فى الجمال ، حيث أصبح الفن عند محترفيه مجرد قواعد محفوظة وصفها أفلاطون بأنها لا توجه الجمهور إلى الخير بل إلى اللذة . ولما كان هذا الفن لا ينطوى على خير ولا حقيقة ولا جمال ، فقد وصفه أفلاطون بأنه خيال ومحاكاة مزيفة للحقيقة ، واستبعده من مدينته الفاضلة "
وعلى هذا النحو يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار أن نقد أفلاطون كان موجهاً إلى الاتجاهات الجديدة فى الفن والفكر المعاصر له ، فهو لم يوجه اتهامه إلى الشعر على الإطلاق بل إلى الشعر بقصد اللذة .
لقد جاءت أسطورة نفى أفلاطون الشعراء فى مدينته المثالية نتيجة لإساءة فهم كتاب الجمهورية إذ ذكر أفلاطون الشاعر بقوله (علينا أن نبجله باعتباره شيئاً مقدساً وساحراً وممتعاً، علينا أن نعرفه بأنه لا وجود لمن يماثله فى مدينتنا ، وأنه لا يسمح بوجود هذا المثيل وعلينا ألا نعمده بزيت الرايتنج ونكلل جبينه بالغار ، وأن نقصيه إلى مدينة أخرى . ومن ناحيتنا نبحث لصالحنا عن شاعر أخر أكثر جفافاً وأقل قدره على التسلية وحكاية القصص بقوم بتمثيل أحاديث الرجل الخير لنا ) ( 398 A . ويؤكد لنا من يسيئون فهم أفلاطون بأن ضحية هذا الإبعاد هو الشاعر على الإطلاق . ولو أنهم قرءوا العبارة إلى أخرها كما جاء ذكرها هنا ، لأمكنهم أن يروا أنه لا يمكن أن يكون المقصود كذلك ، فهو لم يقصد الشاعر التمثيلى على الإطلاق ، بل قصد الشاعر الذى يعمل على التسلية والذى يمثل ببراعة رائعة وبطريقة مثالية للغاية التوافه والمنفرات .
وقد واجهت دعوت الفن للفن نفس المعارضة التى واجهتها النظرية الحسية فى الجمال فى عصور ما قبل الميلاد ، فلقد عاب الاشتراكيون على الدعوة محاولة فصلها عن المجتمع.
كما قاد " سارتر" حملة ساخرة على هؤلاء الذين يحصرون قيمة الأدب فى نواحيه الفنية وينفون أن يكون للأدب تأثير أو هدف، فرفض الفصل بين الجمال الفنى والقيمة.
وأقر بان الكاتب الذى يتبع تعاليم دعاة ( الفن للفن ) ، يهتم قبل كل شيء بكتابة أثار لا تخدم شيئا البتة ، أثار محرومة من الجذور ، وهكذا يضع نفسه على هامش المجتمع ، أو لا يقبل بالأحرى إلا يمثل فيه إلا بصفة مستهلك محض ، وعلى وجه الدقة كطالب متعه . فالفن الخالص والفن الفارغ سواء بسواء ، والدعوى إلى مثل هذا الفن ـ فيما يرى "سارتر" ـ ليست إلا ذريعة تذرع بها نكرات القرن الأخير لأنهم أبو أن يسلكوا سبيل التجديد والكشف وأن يبدعوا شيئاً ذا قيمه .
ويرى الباحث أن قصور دور الفن على إبراز النواحى الجمالية يقلل من فرص خلوده ، إذ أن الجمال ليس مطلق فكما يتغير مقياس الحياة بتغيير ظروفها يختلف الإحساس بالجمال من عصر إلى عصر وكذلك من طبقة إلى طبقة .
كما يرى أن قصور وظيفة الفن على المتعة والتسلية ، إنما هو دحض لقيمته وإغفال لدوره الفعال فى الارتقاء بمستوى الحياة الواقعية إلى المثالية ، فلو كان الفن هو ما يجلب المتعة فيمكننا الاعتراف بان الطعام الطيب وشم الروائح الذكية ومختلف الأحاسيس المادية الأخرى يمكن أن تعتبر فنوناً .
ويتفق الباحث مع جلبرت موراى Gilbert Murray فى قوله بأن إبداع أى عمل فنى لابد وأن يقوم على قصد المنفعة والاستخدام ، فليس ثمة صورة ترسم لأناس عمى ، ولا يبنى قارب فى غير وجود ماء .
إلا أنه يضيف لرأى "جلبرت موراى " رفض " سارتر " للفصل بين الجمال الفنى والقيمة حيث يرى الباحث أن وظيفة الفن كمنشط لوعى المتلقى تجاه الممارسات الاجتماعية التى تحيط به لا تتعارض مع طبيعته كوسيلة للإمتاع والترفيه وأن رعاية القيم الجمالية ضرورى للفنان وضرورى للفن وإلا تداخلت الخطوط بين العلم والأدب ، وأنه إذا تضافرت القيم الجمالية التى يتضمنها العمل الفنى مع القيمة الاجتماعية التى يهدف إليها المبدع لخلق عمل متكامل يجمع بين الإقناع والإمتاع أصبح للفن هدفٌ أسمى من أن يكون لمجرد التسلية .
ابراهيم حجاج
مدرس مساعد
كلية الآداب

ظاهرة الجريمة فى المسرح المصرى - رسالة ماجستير.

بقلم:ابراهيم حجاج مدرس مساعد بقسم الدراسات المسرحية بكلية الآداب جامعة الاسكندرية
تعتبر الجريمة بكافة صورها وأشكالها ظاهرة اجتماعية تعمل ضد المجتمع وتضر بمصلحة أفراده وقد كانت منذ أقدم العصور ، ومنذ بداية الحياة الإنسانية الأولى على وجه الأرض عائقا للتقدم ومصدرا لتفكك الحياة وفسادها بوجه عام ، فهى تهدم كيان المجتمع الأخلاقى والاقتصادى والأمنى ،وهى سلوك انسانى قبل أن تكون فكرة قانونية مجردة ، وبالتالى يتعين دراستها كواقعة مادية إنسانية وذلك بالبحث فى كافة دلالاتها الواقعية ودوافعها النفسية والاجتماعية، والاقتصادية، لمواجهة تلك الآفة الاجتماعية والعمل على الحد من انتشارها . ولإيمانى بالمسرح بوصفه أكثر الفنون التصاقا بالمجتمع وله دوره الريادى كمرآة عاكسة لقضاياه ومشاكله تناولت تلك الظاهرة فى رسالة الماجستير، للتأكيد على وظيفة المسرح فى تعميق الوعى بالممارسات الهدامة ، ومحاولة الوصول إلى إجابة لكل التساؤلات الآتية:
1ـ هل نجح المسرح فى ضوء علاقات التأثير والتأثر المتبادلة بين الفن والمجتمع فى رصد ظاهرة الجريمة بوصفها أحد الظواهر الاجتماعية التى طفت على سطح المجتمع المصرى فى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين وهي الفترة محل الدراسة؟
2ـ ماهى الأسباب المؤدية للجريمة ؟ وكيف ساعد التطبيق الخاطىء لبعض القوانين فى انتشارها وتفشيها؟
3ـ إلى أى مدى نجح المسرح كأداة من أدوات الضبط الاجتماعى فى التصدى لهذه الظاهرة ؟
4ـ ماهو مضمون الخطاب المسرحى فى هذا المجال؟ وما هو حجمه وتوجهه؟
5ـ ماهى السمات العامة والملامح الخاصة لشخصية البطل المجرم فى الدراما المسرحية فى ضوء الاستجابات التى يبديها الفرد تجاه المعوقات الاجتماعية وفقا للنظريات الحديثة فى علم الاجتماع؟
وللاجابة عن هذه التساؤلات ، يقدم البحث دراسة تحليلية نقدية لعدد من النصوص المسرحية التى تناولت ظاهرة الجريمة خلال الفترة التى واكبت سياسة الانفتاح الاقتصادى مثل مسرحية" عالم على بابا " للكاتب " نبيل بدران" وتتناول جائم النصب والاحتيال والغش التجارى فى ظل التطبيق الخاطىء لقوانين الانفتاح، مسرحية " ع الرصيف " للكاتبة " نهاد جاد" وتتناول جرائم التزييف وتجارة العملة والتهرب الجمركى وسرقة الأعضاء البشرية، فى ظل سطوة أصحاب الياقات البيضاء ، مسرحية " المليم بأربعة" للكاتب "محمد أبو العلا السلامونى" وتتناول الممارسات الاجرامية لشركات توظيف الأموال، كما يتناول البحث جرائم الارهاب فى الدراما المسرحية ويقدم دراسة تحليلية نقدية لعدد من النصوص المسرحية التى تناولت ظاهرة الارهاب بأشكاله المختلفة خلال العقدين الآخريين من القرن العشرين مثل مسرحية "الجنزير" للكاتب "محمد سلماوى" وتتناول ظاهرة الارهاب الدينى، وترجعه إلى أسباب سياسية واقتصادية ،ومسرحية "أمير الحشاشين" للكاتب "محمد أبوالعلا السلامونى" وتتناول جرائم الاعتداء على السلطة، مسرحية" امرأة العزيز" للكاتب "سمير سرحان" وتتناول جرائم الاغتيال السياسى، كما يقدم البحث أشكال من التوظيف الرمزى لظاهرة الجريمة فى المسرح المصري وفية يتعرض الباحث الي محاولات بعض الكتاب لتناول ظاهرة الجريمة لابمعناها القانوني او الاجتماعي المتعارف عليه بل من خلال مدلول رمزي تعكس من خلاله سوءات المجتمع بهدف كشف زيفه وتعرية متناقضاته ووضعها أمام المتلقى موضع النقد والمساءلة وذلك من خلال ثلاثة من النصوص المسرحية هى، مسرحية "اغتصاب جليلة" للكاتب "يسرى الجندى" التى تتناول الاغتصاب ، ليس بعناه الفسيولوجى المألوف ولكن بمدلول رمزى حيث أن اغتصاب جليلة فى نص "الجندى" ماهو الا اغتصاب للوطن ، ومسرحية " فوت علينا بكرة" للكاتب "محمد سلماوى" والتى تنتهى بجريمة قتل لبطلها "أحمد" من قبل موظفى إحدى المؤسسات الحكومية وهى جريمة تشير بشكل رمزى إلى قتل البيروقراطية لمصالح المواطن المصرى ، ومسرحية "عفوا أيها الأجداد علينا السلام" للكاتب "نبيل بدران" وتتضمن العديد من الجرائم الفنتازية التى ترمز بشكل واضح إلى قضية غياب الديمقراطية ،وتكشف ادعاء حاملى راية السلام الزائف.
وقد توصل البحث إلى مجموعة من النتائج يمكن اجمالها فيما يأتى:
1ـ نجاح الخطاب المسرحى الذى طرحته مجموعة النصوص المسرحية فى الفترة محل الدراسة فى عكسه لقضايا المجتمع ومشاكله، وكشفه للعديد من المعوقات التى ساهمت فى زيادة معدلات الجريمة فى تلك الفترة منها: الفساد السياسى ـ غياب الديمقراطية ـ التفاوت الطبقى والحرمان الاقتصادى ـ التفكك الأسرى ـ روح الانسحابية وتخلى البعض عن أدوارهم فى معركة البناء نتيجة اندحار الحلم العربى بعد نكسة 67 ـ تورط بعض المسئولين فى الحكومة فى أعمال الفساد.
2ـ أثبت البحث امكانية دراسة ظاهرة الجريمة كموضوع فى الدراما وفقا للنظريات الحديثة فى علم الاجتماع وكذلك امكانية وصف شخصية المجرم وردود افعاله فى النص المسرحي فى اطار نظرية المعوقات الوظيفية حيث جاءت انماط المحجرم في النماذج الدرامية المختارة متوافقة مع الانماط التي تضمنتها النظرية والتى شملت نمط الانحراف الابتكاري نمط الانحراف المتمرد نمط الانحراف الانسحابى نمط الانحراف الروتينى
3ـ أكد البحث على دور المسرح باعتباره اداة من ادوات الضبط الاجتماعي ومن ناحية اخري اشار البحث الى الرؤي الفنية الجديدة في تناول ظاهرة الجريمة بعيدا عن مفهومها القانونى أو الاجتماعي المتعارف عليه وذلك لعكس قضايا سياسية او اجتماعية معينة من خلال مدلول رمزي.